اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين . وقد كان ذلك واجبا على أصح القولين قبل نزول آية المواريث ، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه ، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله ، يأخذها أهلوها حتما من غير وصية ولا تحمل منة الموصي ، ولهذا جاء الحديث في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول:"إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث ".
وقال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن محمد بن سيرين ، قال:جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى أتى [ على] هذه الآية:( إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين ) فقال:نسخت هذه الآية .
وكذا رواه سعيد بن منصور ، عن هشيم ، عن يونس ، به . ورواه الحاكم في مستدركه وقال:صحيح على شرطهما .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله:( الوصية للوالدين والأقربين ) قال:كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين ، فأنزل الله آية الميراث فبين ميراث الوالدين ، وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج بن محمد ، أخبرنا ابن جريج ، وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، في قوله:( الوصية للوالدين والأقربين ) نسختها هذه الآية:( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ) [ النساء:7] .
ثم قال ابن أبي حاتم:وروي عن ابن عمر وأبي موسى ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن سيرين ، وعكرمة ، وزيد بن أسلم ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وطاوس ، وإبراهيم النخعي ، وشريح ، والضحاك ، والزهري:أن هذه الآية منسوخة نسختها آية الميراث .
والعجب من أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي رحمه الله كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية غير منسوخة ، وإنما هي مفسرة بآية المواريث ، ومعناه:كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين . من قوله:( يوصيكم الله في أولادكم ) [ النساء:11] قال:وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء . قال:ومنهم من قال:إنها منسوخة فيمن يرث ، ثابتة فيمن لا يرث ، وهو مذهب ابن عباس ، والحسن ، ومسروق ، وطاوس ، والضحاك ، ومسلم بن يسار ، والعلاء بن زياد .
قلت:وبه قال أيضا سعيد بن جبير ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان . ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا في اصطلاحنا المتأخر ; لأن آية الميراث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية ، لأن "الأقربين "أعم ممن يرث ومن لا يرث ، فرفع حكم من يرث بما عين له ، وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى . وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم:أن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندبا حتى نسخت . فأما من يقول:إنها كانت واجبة وهو الظاهر من سياق الآية فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث ، كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء ; فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين [ الوارثين] منسوخ بالإجماع . بل منهي عنه للحديث المتقدم:"إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ". فآية الميراث حكم مستقل ، ووجوب من عند الله لأهل الفروض وللعصبات ، رفع بها حكم هذه بالكلية . بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم ، يستحب له أن يوصى لهم من الثلث ، استئناسا بآية الوصية وشمولها ، ولما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عمر ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه ، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ". قال ابن عمر ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي .
والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم ، كثيرة جدا .
وقال عبد بن حميد في مسنده:أخبرنا عبيد الله ، عن مبارك بن حسان ، عن نافع قال:قال عبد الله:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يقول الله تعالى:يا ابن آدم ، ثنتان لم يكن لك واحدة منهما:جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك ; لأطهرك به وأزكيك ، وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك ".
وقوله:( إن ترك خيرا ) أي:مالا . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وأبو العالية ، وعطية العوفي ، والضحاك ، والسدي ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، وقتادة ، وغيرهم .
ثم منهم من قال:الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر كالوراثة ومنهم من قال:إنما يوصي إذا ترك مالا جزيلا ثم اختلفوا في مقداره ، فقال ابن أبي حاتم:
حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، أخبرنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال:قيل لعلي ، رضي الله عنه:إن رجلا من قريش قد مات ، وترك ثلاثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص . قال:ليس بشيء ، إنما قال الله:( إن ترك خيرا ) .
قال:وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، حدثنا عبدة يعني ابن سليمان عن هشام بن عروة ، عن أبيه:أن عليا دخل على رجل من قومه يعوده ، فقال له:أوصي ؟ فقال له علي:إنما قال الله تعالى:( إن ترك خيرا الوصية ) إنما تركت شيئا يسيرا ، فاتركه لولدك .
وقال الحكم بن أبان:حدثني عن عكرمة ، عن ابن عباس:( إن ترك خيرا ) قال ابن عباس:من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا ، قال الحكم:قال طاوس:لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا . وقال قتادة:كان يقال:ألفا فما فوقها .
وقوله:( بالمعروف ) أي:بالرفق والإحسان ، كما قال ابن أبي حاتم:
حدثنا الحسن بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن يسار ، حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، قوله:( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ) فقال:نعم ، الوصية حق ، على كل مسلم أن يوصي إذا حضره الموت بالمعروف غير المنكر .
والمراد بالمعروف:أن يوصي لأقربيه وصية لا تجحف بورثته ، من غير إسراف ولا تقتير ، كما ثبت في الصحيحين أن سعدا قال:يا رسول الله ، إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي ، أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال:"لا "قال:فبالشطر ؟ قال:"لا "قال:فالثلث ؟ قال:"الثلث ، والثلث كثير ; إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ".
وفي صحيح البخاري:أن ابن عباس قال:لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الثلث ، والثلث كثير ".
وروى الإمام أحمد ، عن أبي سعيد مولى بني هاشم ، عن ذيال بن عبيد بن حنظلة ، سمعت حنظلة بن حذيم بن حنيفة:أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل ، فشق ذلك على بنيه ، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال حنيفة:إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل ، كنا نسميها المطيبة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، "لا لا لا . الصدقة:خمس ، وإلا فعشر ، وإلا فخمس عشرة ، وإلا فعشرون ، وإلا فخمس وعشرون ، وإلا فثلاثون ، وإلا فخمس وثلاثون ، فإن أكثرت فأربعون ".
وذكر الحديث بطوله .