كيف نفهم القتال من موقع الجهاد ؟
ثُمَّ انطلقت الفكرة ،لتجعل من قضية القتال ضدّ الشرك والمشركين قضية تدخل في حساب تهديم الأسس التي يرتكز عليها الكفر في قوّته التي يحارب من خلالها الإسلام ،ويضغط بها على حرية المسلمين ليفتنهم عن دينهم ،ويقف على أساسها ضدّ كلّ تحرّك للإسلام في العالم .إنَّ القضية ليست نزاعاً على مستوى الأشخاص أو القبائل أو الفئات المتخاصمة ،لتحل على أساس الهدنة أو إنهاء النزاع في نطاق المعاهدات القائمة على التجميد المؤقّت للمشكلة ؛بل هي نزاع على مستوى رسالة اللّه التي أراد أن تقوم الحياة على قاعدتها الصلبة الممتدة بالحقّ والعدل ؛ولذا فإنَّ وجودها يعتبر نقيض وجود الكفر الذي يعمل على العدوان والبغي والطغيان ...ولذلك فلا بُدَّ من قتال الشرك والمشركين ،حتى لا يبقى هناك أساس للضغط الذي يفتن المؤمنين عن دينهم ،وحتى يكون الدِّين كلّه للّه ؛فلا يبقى للشيطان وللطاغوت موطىء قدم في الأرض .] وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للّه[ من دون أي ضغط أو تهديد أو مصادرة للحرية ،ما يمنع المسلمين من ممارسة دينهم براحة وطمأنينة .
إنَّ القضية هي قضية مصلحة الإنسان ؛فلا بُدَّ من الجهاد الشامل بشروطه الإسلامية الشرعية من أجل أن تبقى للإنسان حريته الحقيقية في الحياة القائمة على الحقّ والعدل ،بعيداً عن أوهام الحرية في ظلّ سيادة الكفر والظلم والعدوان باسم حرية الفكر والموقف .ومن الواضح أنَّ قضية الجهاد ليست قضية سيطرة سلطة غاشمة تضغط على إرادة الإنسان ،فلا تمنحه الحرية ليناقش أو يحاور أو يسأل من أجل الوصول إلى الحقيقة الإيمانية ،بل هي قضية تحديد حرية الكفر وتجميد دوره ،وذلك بإعطاء الإنسان الحرية في الوصول إلى القناعة من خلال الحوار الإيجابي المنفتح في نطاق خاص .فإذا تمرّد كان الحقّ للحياة الرسالية أن تعبّر عن نفسها بفرض سلطتها على الواقع من أجل الإنسان .وقد نعرف ،من خلال دراسة الشروط الشرعية للجهاد ،أنه لا يهدف دوماً إلى تغيير عقيدة الإنسان بالقوّة ،بل نراه يحافظ على إبقاء الآخرين على عقيدتهم في ما يتصل بالديانات السَّماوية الأخرى إذا حافظوا على شروط العهد والذمة ،أو في ما يتصل بالفئات الأخرى غير المؤمنةفي بعض الحالاتفي نطاق المعاهدات التي تقتضي مصلحة الإسلام إقامتها معهم .إنَّ القضية هي أن لا تكون هناك فتنة ،وأن يكون الدِّين كلّه للّه ،بحيث تكون له الكلمة العليا في الأرض ،فلا تبقى هناك كلمة للكفر في موقع السيادة الشاملة .وتلك هي قضية كلّ فكر ودين يريد أن يجعل الحياة على صورته .
] فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ[.فسِّر الانتهاء في هذه الآية بإيمانهم بالإسلام والابتعاد عن خطّ الكفر ،فإنهم إذا أسلموا كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ،وذلك في ما روي عن النبيّ( ص ): «إنَّ ربي أمرني أن أقاتل النّاس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ اللّه ،فإن قالوها اعتصموا مني دماءهم وأموالهم » ..وفي ضوء ذلك ،يعتبر القتال بعد الإسلام مخصوصاً بالظالمين الذين يعتدون على النّاس ويبغون عليهم بغير الحقّ .
ويمكن أن تكون الآية واردة في اتجاه آخر ،وهو التأكيد على تحطيم قوّة الكفر ،وتركيز سيادة الدِّين وقوّته من خلال القتال الذي يحقّق هذا الهدف ،بالمستوى الذي لا يستطيع المشركون والكافرون معه الممارسة العدوانية على المسلمين ؛وذلك إمّا بالإيمان بعد الكفر ،وإمّا بالمعاهدات التي تنظم قواعد السَّلام القائم على احترام حرية المسلمين في دينهم وفي الدعوة إلى الدِّين .
وعلى ضوء ذلك ،لا تكون الآية واردة في مجال انتهائهم عن الكفر ،بل عن الظلم والعدوان .وليس معنى ذلك أنَّ الإسلام لا يبرر الجهاد من أجل تحطيم واقع الكفر في الحياة ،بل كلّ ما نريد أن نقرره هو إمكانية أن يكون للآية معنى غير ما يذكره المفسرون .