{بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} في ما تعبر عنه الكلمة من الرؤى التي تتمثل للإنسان في صور مضطربة ،وأحداث غير متناسقة ،مما يراه في المنام ،من دون أن يكون لها أساس في الواقع ،أو موقع من الفكر .
ولكن كيف تكون كل هذه الآيات المليئة بالفكر والروح والحركة والحياة أحلاماً مبهمة متناثرة ؟وكيف يمكن أن يعطي الضباب الوضوح في الرؤية ،أو يمنح السحاب الأفق مزيداً من الإشراق ؟ولهذا أعرضوا عن ذلك لأنه لا يرتكز إلى أساس معقول ،فلا يقبله منهم أحد من ذوي العقول ،فانتقلوا إلى كلمة أخرى أقرب إلى التصديق ،{بَلِ افْتَرَاهُ} فهو يصنع الفكرة من داخل ذاته ثم ينسبها إلى الله ،ليصدقها الناس من خلال القداسة ؛وبذلك يملك كل المعطيات التي تؤكدها .
ولكنهم يلاحظون هذا الإقبال العجيب على الإيمان بهذه الآيات مما لا يحصل في كل مواقع الافتراء التي لا تترك أثراً عميقاً ،ولهذا اختاروا كلمةً تعطي المسألة قوّتها في نطاق الذوق الفني ،{بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} يملك الفن الرفيع الذي ينحت الكلمة الرائعة ،ويبدع الفكرة الرفيعة ،ويثير الإحساس ،ويلهب الشعور ،ويقترب في إيحاءاته من السموّ في اللمحة واللفتة والأسلوب .وبذلك كان القرآن يمثل الشعر في بلاغته .ثم تركوا التحدث عن طبيعته من خلال العنوان الذي يثيرونه في ذاته ،ليثيروا المسألة من جانب آخر .فهم يناقشون صفة الرسالية لدى النبي محمد( ص ) من خلال المقارنة بينه وبين الرسل الآخرين ؛فهو يعترف ،كما يعترفون ،بأنهم رسل الله ،وقد جاؤوا بالمعجزات الخارقة للعادة ،كدليل على رسالتهم ،{فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون} ؛ولكنه لم يستجب لذلك ،فلم يأت بآية مماثلة ،فكيف تريدوننا أن نصدق بنبوته ،وهل يؤمن الإنسان من دون دليل واضح ؟
ولكن القرآن يناقش طريقتهم في عرض المسألة ،لأنهم ليسوا جادّين في طلب الآية ،فهم لا يعيشون إرادة الإيمان في وجدانهم ،ولهذا كانوا لا يناقشون قضاياه بطريقة هادئة علمية ،بل يواجهونها بطريقة انفعالية لا تستريح للهدوء الفكري في مناقشة الأمور .
ولو أرادوا الإيمان لأمكن لهم أن يكتشفوا في القرآن ،من خلال براهينه الواضحة ،وآياته وأساليبه ،ما يمكن أن يقودهم إلى الإيمان من أقرب طريق .وهم لم يكونوا بدعاً من طلبهم المعجزة الخارقة ،بل كانوا كالكافرين الذين تقدموهم ،فقد طلبوا من رسلهم المعجزات ،حتى إذا جاءتهم رفضوا الإيمان بهم ،وقالوا عنها أنها سحر ،كما قال هؤلاء عن القرآن إنه سحر ،وتحدثوا عن البشرية كعنصر مضادّ للنبوة ،كما يتحدث هؤلاء .فما الفائدة بعد ذلك من إنزال المعجزة ،ما دام الهدف الذي تؤكده لا يحصل منها وما دام هناك أكثر من طريق تقوم به الحجة على الناس ؟