{ بل} هنا للإضراب الانتقالي ، ينتقلون بقولهم من فرية إلى فرية يحسبونها أقوى صدّا ، ثم إلى أقوى منها ، انتقلوا من فرية السحر إلى فرية أضغاث الأحلام إلى فرية أنه افتراه على الله إلى فرية أنه شاعر ، ثم ينتهون إلى أنهم لا يرضون بهذه الآية الدالة على أنه مرسل من عند الله ، كالآيات التي كانت للأنبياء السابقين من المعجزات الحسية كالعصي وإبراء الأكمة والأبرص ، و"الأضغاث"جمع "ضغث"، وهو القبضة من الريحان والحشيش أو الحطب أو قضبان النبات ، كما قال تعالى:{ وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث . . . 44} ( ص ) ، وشبهت بها الأحلام المختلطة التي لا تتبين حقائقها ولا تستبين عند الحالم . انتقلوا من ادعاء أن القرآنسحر ساحر إلى أنه تخاليط أحلام سيطرت على عقل النبي صلى الله عليه وسلم إذ هي أخلاط كالأحلام ليس فيها حق يدرك .
ثم انتقلوا من هذا الادعاء إلى ادعاء آخر أوغل منه في الرد في زعمهم ، فقالوا{ بل افتراه} ، أي اخترعه من عنده اختراعا فهو قول مفتري ، وهذا هو لب تكذيبهم ، وإن لم يقصدوا إليه ابتداء ، فهم مكذبون له في كل الأحوال ، ثم انتقلوا إلى ادعاء أنه قول ساحر ، ولم يقولوا إنه شعر لأنهم يعلمون الشعر في حقيقته ، ويفرقون بذوقهم البياني بين القرآن والشعر ولقد ادعوا أن محمدا شاعر ، وأنه من أفانينه ، وإن لم يكن شعرا ، والشاعر يتفنن في القول نثرا أو سجعا أو شعرا ، وكل هذا باطل ، وذلك التردد في القول دليل على حيرتهم في الرد ، ودليل على لجاجتهم في الجحود ، فقالوا مرة:ساحر ، ومرة:أضغاث أحلام ، ومرة:افتراه ، ومرة:إنه شاعر .
وهنا يجئ سؤال:أليسوا في كل أقوالهم يدعون الافتراء ، فلماذا خص الافتراء بالذكر ؟ ونقول إنهم في الثلاثة الأخر غير الافتراء يتكلمون في النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الافتراء يتجهون إلى القرآن نفسه ، ولقد قال في ذلك الإمام الزمخشري:"هم أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام ثم إلى أنه كلام يفترى ، ثم إلى أنه قول شاعر ، وهكذا الباطل لجلج والمبطل متحير ، رجّاع غير ثابت على قول واحد ، ويجوز أنه يكون تنزيلا من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد ، وأن قولهم الثاني أفسد من الأول ، والثالث أفسد من الثاني ، والرابع أفسد من الثالث".
وهذا الذي اخترناه ، ونحن رأينا ابتداء أن هذه الإضرابات الانتقالية حكاية من الله تعالى لغيهم .
وخلاصة أقوالهم أنهم لا يعدون القرآن آية دالة على أنه رسول من عند الله ، ولذا طلبوا آية حسية كالأنبياء السابقين فقال:{ فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} "الفاء"لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي فرتب على جحودهم بالقرآن آية ، قولهم:ليأتنا بآية حسية باهرة قاهرة حسية ، كما أرسل الأولون بآيات حسية ، التشبيه بين ما يريدون من آيات وآيات الرسل الأولين .