التقوى سرّ العبودية لله
{لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دماؤها} فإن الله غنيٌّ عنها وعنكم ،لأنه هو خالقها وخالقكم ،فلم يتعبدكم بنحرها لترجع منفعتها إليه ،تماماً كما هو الحال في العبادات كلها ،التي لن يرجع منها شيءٌ إليه ،لأنه الرب الغني عن عباده ،الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه ،ولا تضرّه معصية من عصاه ،{وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} في ما يعبر عنه موقف العطاء المادي بلا مقابل تقرباً إلى الله ،من حركة داخلية تنمّي التقوى في النفس ،وتثيرها في الواقع ،ذلك أن الممارسة كلما امتدت في حياة الإنسان ،كلما عمقت تجربته الروحية في الداخل ،بحيث تصبح الحركة على المستوى العملي هي السلوك الذي يختزن الحالة الروحيّة في المعنى ،وبذلك تصبح الممارسة أسلوباً في التربية التي تبني الداخل وتحدد ملامح الشخصية ،الأمر الذي يجعلنا نسعى إلى تعميق الفكرة في النفس ،عبر تكرار العمل الذي يطبع معناها ويعكسه في الواقع .
والتقوى حالة روحيّة يتحسس الإنسان من خلالها في قلبه وروحه سرّ العبودية لله ،لجهة وعي المسؤولية وتجسيدها حركة في الواقع ،في شعور عظيم بالحضور الإلهيّ الذي يحيط بكل ما حوله ومن حوله ،وما فوقه وما تحته ،لأن الله هو المهيمن على كل شيء ،والخبير بكل سرّ وعلانية ،وهو على كل شيء قدير .
وهي التي يمكن أن تضبط خطوات الإنسان في دروب الله ،وتحقق نظام الحياة في نطاق إرادته ،وتملأ الدنيا حركةً في المسؤولية ،ومسؤوليةً في الالتزام ،والتزاماً بالله في كل شيء ،ولذلك كانت هدف الأهداف في كل تشريعات العبادة في جميع مجالاتها وأنواعها ،وعلى اختلاف خصائصها القولية والفعلية .
{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وتسبحوه وتعظّموه ،وتستحضروا عظمته ،وتتذكروا نعمته ،وتتطلعوا إلى أسرار الإبداع في خلقه ،والقدرة المطلقة في قوّته ،فإن الالتفات إلى مواقع هداية الله توحي بذلك كله ..{وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} الذين عاشوا الحياة إحساناً في الفكر والقول والفعل ،على مستوى قضايا الحياة والإنسان ،في خط إرادة الله ،في أوامره ونواهيه .