{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ} وليس لهؤلاء الذين يعتقدون بمثل ذلك أيّ دليل ،سوى ما قد يتخيلونه لبعض المخلوقات من الجن أو الملائكة أو الإنس ،من قدراتٍ غير عادية لا تتناسب مع طبيعة المخلوق العادي ،ما يؤدي بهم إلى الاعتقاد بأنَّ في شخصية هذه المخلوقات سرّاً من الألوهية ،التي تتمتع بالقدرات الخارقة في علم الغيب ،أو في التحرك غير الطبيعي الذي يقطع المسافات ،ويطير في الفضاء ،ويتحرك في السماء ،أو في الأعمال المعجزة التي يقومون بها من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ،وما إلى ذلك من أمور لا تحصل إلا لمن يملك في ذاته بعضاً من الألوهية ،ولن تكون الألوهية شيئاً يأتي من الخارج ،بل لا بد من أن تتأتى عن الارتباط العضوي بالإله الواحد المهيمن ،كالبنوّة التي توحي بوجود شيء منه داخل ولده ،نظراً لطبيعة إرث الأبناء لخصائص الآباء .
ولكن هذا التفكير لا يخلو من السذاجة ،فإن البنوّة تمثل نوعاً من أنواع المحدودية والحاجة التي يستحيل وجودها في واجب الوجود ،وهو الغني عن عباده في كل شيء ،وليس هناك أيّ فراغٍ في ذاته لتسدّه مثل هذه الأمور .
أمّا هذه القدرات الخارقة والأعمال المعجزة ،فمن السهل أن يمنح الله عباده بعضها ،تماماً كما يمنح بعض ظواهره الكونية الخصائص العظيمة ،في ما يركّزه في داخلها من قوانين طبيعيّة ،لأنه على كل شيء قدير ،وليس من الضروري أن تكون هذه الأمور خاضعة لعناصر ذاتية بالمعنى الإلهي للمسألة ،لأنه لا دليل على ذلك ،ولا مقتضى له .
دليل وحدانية الله تعالى
{وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِله} وليس لدى من يدّعون ذلك أية حجة وبرهان عليه سوى تخيّلاتهم المرضيّة المعقدة التي توحي لهم ببعض الأخيلة الفكرية التي تنسجها نقاط الضعف الشعورية الناتجة عن رواسب تاريخية وبدائية ،أو عن بعض الأفكار المتخلّفة التي تضخّم ما لا يملك أيّة ضخامة فعلية ،وتمنح بعض الأشخاص أو التماثيل صفات وهمية لا واقع لها .
وليست المسألة مجرد نفي للدليل ،بل هناك دليل عقليٌّ قاطع على وحدانية الله ونفي الشرك ،توفره حسابات العقل من جهة ،ومعطيات الواقع في النظام الكوني من جهةٍ أخرى .
{إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ} ،لأن من خصائص التعدد وجود اختلاف في طبيعة الذات ،يجعل لكل إله نظاماً يختلف عن الآخر ،ما يوحي بأن ألوهية أحدهما وربوبيته تختلف عن صاحبه ،فيستقلّ كل واحدٍ بمنطقةٍ من العالم يمارس فيها قدرته المطلقة ويخطط فيها النظام الذي يرتئيه ،وبذلك تنفصل طبيعة النظام الذي يحكم الكون إلى أقسام ،ويصبح لكل منطقة نظام مستقلّ لا يرتبط بالنظام الذي يحكم المنطقة الأخرى .فقد يكون للإنسانعلى هذا الأساستدبير معين يختلف عمّا هو جارٍ في تدبير الحيوان والنبات ،وهكذا عندما نواجه المخلوقات الأخرى والظواهر الطبيعيّة ،ولكن هذا يوجب التفكيك في النظام الكوني ،ومن ثم التدافع والتجاذب الذي قد يؤدي إلى الفساد ،في الوقت الذي نشاهد فيه وحدة هذا النظام وتناسق أجزائه وتوافق جوانب التدبير فيه .
{وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} قد يكون سبب ذلك هو أن تعدد السلطات يستلزم التنافس عند محاولة سيطرة كل إله على الآخر وما تفرضه طبيعة الصراع ،حيث يحاول كل منهما الاستعلاء على الآخر في ما يملكه من القدرة المطلقة ،ولكن ذلك يعني اضطراب النظام الكونيّ وفساده ،في الوقت الذي لا نجد فيه أيّ أثر لهذا الفساد في الواقع ،وبذلك تكون مسألة الاعتقاد بتعدد الآلهة جارية على طبيعة الاعتقاد العام الذي ينظر إلى مسألة التعدد في الآلهة على طريقة التعدد في الناس ،فلا تكون الملازمة خاضعة للمعادلات العقلية ،بل تكون منسجمة مع الاستلزام العادي الناشىء من طبيعة الأشياء في حركة السطح ،لا في حركة العمق .
مناقشة مع صاحب الميزان
ولكنّ لصاحب الميزان فهماً آخر للمسألة ،يتجه بها إلى اعتبار الفقرة من أدلّة التوحيد ،في مواجهة تعدد الآلهة ،فيقول:
«وقوله:{وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} محذور آخر لازم لتعدد الآلهة تتألف منه حجة أخرى على النفي ،بيانه أن التدابير الجارية في الكون مختلفة ،منها التدابير العرضية ،كالتدبيرين الجاريين في البرّ والبحر ،والتدبيرين الجاريين في الماء والنار ،ومنها التدابير الطولية التي تنقسم إلى تدبير عام كلّي حاكم وتدبير خاص جزئي محكوم ،كتدبير العالم الأرضي وتدبير النبات الذي فيه ،وكتدبير العالم السماوي وتدبير كوكب من الكواكب التي في السماء ،وكتدبير العالم المادي برمّته وتدبير نوع من الأنواع المادية .
فبعض التدبير ،وهو التدبير العام الكلي ،يعلو بعضاً ،بمعنى أنه بحيث لو انقطع عنه ما دونه بطل ما دونه لتقوّمه بما فوقه ،كما أنه لو لم يكن هناك عالم أرضي ،أو التدبير الذي يجري فيه بالعموم ،لم يكن عالم إنسانيّ ،ولا التدبير الذي يجري فيه بالخصوص .ولازم ذلك أن يكون الإله الذي يرجع إليه نوع عالٍ من التدبير عالياً بالنسبة إلى الإله الذي فوّض إليه من التدبير ما هو دونه وأخصّ منه وأخسّ ،واستعلاء الإله على الإله محال ،لا لأن الاستعلاء المذكور يستلزم كون الإله مغلوباً لغيره ،أو ناقصاً في قدرته محتاجاً في تمامه إلى غيره أو محدوداً ،والمحدودية تفضي إلى التركيب ،وكل ذلك من لوازم الإمكان المنافي لوجوب وجود الإله ،فيلزم الخلفكما قرره المفسرونفإن الوثنيين لا يرون لآلهتهم من دون الله وجوب الوجود ،بل هي عندهم موجودات ممكنة عالية فُوّض إليهم تدبير أمرٍ ما دونها ،وهي مربوبة لله سبحانه ،وأرباب لما دونها ،والله سبحانه رب الأرباب ،وإله الآلهة ،وهو الواجب الوجود بالذات وحده ،بل استحالة الاستعلاء ،إنما هو لاستلزامه بطلان استقلال المستعلى عليه في تدبيره وتأثيره ،إذ لا يجامع توقف التدبير على الغير والحاجة إليه الاستقلال ،فيكون السافل منها مستمداً في تأثيره محتاجاً فيه إلى العالي ،فيكون سبباً من الأسباب التي يتوسّل بها إلى تدبير ما دونه ،لا إلهاً مستقلاً بالتأثير دونه ،فيكون ما فرض إلهاً غير إِله بل سبباً يدبّر به الأمر ،هذا خلف »[ 1] .
ولكن هذا التفسيرعلى طرافتهلا ينسجم مع طبيعة التعبير ،والجوّ الذي يريد إثارته في الذهنية البسيطة العامة ،التي لم تكن لتتصور مسألة التعدد إلا بالطريقة التي تتعدد فيها المواقع السلطوية في ساحة الصراع ،فتمتد إلى أن يعلو أحد الطرفين أو الأطراف على الآخر لتكون السلطة له وحده ،وهذا هو الذي استخدمه القرآن في كلمة العلوّ التي ذكرها في قوله تعالى عن فرعون:{إِنَّهُ كَانَ عَالِياً} [ الدخان: 31] وعن الذين جعل الله لهم الدار الآخرة لأنهم:{لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً} [ القصص: 83] ،وذلك هو معنى السلطة والسيطرة والكبرياء ،في ما يتمثل في طبيعة الشخص وفي موقعه ،لا في طبيعة الدور الذي يمارسه من حيث توقفه على شيء آخر لا يتحقق بدونه .ولعل النظرة الوجدانية إلى طبيعة التعبير ،توضح لنا كيف تبتعد الكلمة عن المعنى الذي ذكره العلاّمة الطباطبائي في هذه الآية ،والله العالم .
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} من نسبة الولد أو من نسبة الشريك إليه ،مما لا يمكن أن ينسب إليه ،