ما هو جزاء من يعيشون العقدة ضدّ الطيبين من الناس ،ويحاولون تشويه صورتهم في الأذهان ،كوسيلةٍ من وسائل التنفيس المرضيّ عن العقدة ،دون حساب الآثار السلبية التي تنعكس على الفرد والمجتمع جرّاء ذلك كله ؟
إن الآية الكريمة تحدثنا عن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ،وعن عقوبتهم المنتظرة في الدنيا والآخرة .
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ في الَّذِينَ ءَامَنُواْ} وذلك بإثارة الكلمات اللامسؤولة التي تتحدث عن حركة الفاحشة في حياة المؤمنين ،من أجل إفساد طهارة الجوّ الإيماني الذي يغمر الجميع بأنفاس العفّة ،حتى ليخيّل إلى الإنسان أن المجتمع يتفايض بالطهارة ويرفرف بالنقاء ،في ما يراه من توازن الأفكار والمشاعر ،واستقامة الأخلاق والخطوات ،ونظافة العلاقات ،فيأتي هؤلاء من هنا وهناك ،ليطلقوا الإشاعات الكاذبة ،بأن فلاناً زنى ،وبأن فلانة انحرفت ..ويخوضون في ذلك ،حتى يدفعوا الناس إلى الخوض فيه ،فيتبدل الجوّ الطاهر إلى جوٍّ يوحي بالقذارة ،ويتغير الهواء النقيّ إلى هواء فاسد ،ويتحول الإيحاء في حركة الحياة من اتجاه يثير المعاني الطاهرة في الروح والشعور إلى اتجاه يثير المعاني القذرة في داخل النفس الإنسانية ..
وهكذا تساهم الإشاعات والكلمات اللاّمسؤولة في انحراف الفكرة والإحساس ،والخطوة والموقف ،وتشكّل خطوةً تربويّة سلبيّة ،بدلاً مما يريده الإسلام للكلمات أن تتحرك فيه ،بحيث تكون خطوة تربويّة إيجابيّة ،فإن الإنسان يتأثر بالمجتمع سلباً أو إيجاباً من خلال الفكرة التي يحملها عنه ،أو من خلال الجوّ الذي يحتويه بفكره وروحه وحركته .
وقد يكون هذا هو السبب في تحريم الإسلام لتداول الحديث في الجو الاجتماعي العام عن الانحرافات الحقيقيّة التي تحدث في المجتمع ،بحيث تصبح تلك الانحرافات حديث الناس كلهم ،لأنّ ذلك قد يخدش سلامة التصوّر الأخلاقي الذي يحتاجه الإنسان في عملية النموّ الذاتي ،بما يثيره من مشاعر سلبيّةٍ منحرفة ،كما قد يسيء إلى سمعة الإنسان المنحرف الذي لا يريد الإسلام أن يتحوّل الخطأ عنده إلى عقدةٍ مستحكمةٍ بسبب خوض الناس فيه ،بل يريد أن يفسح له فرصة التحرك نحو التصحيح في خطوة تراجعيّةٍ دون أن يفقد شيئاً من الإحساس بالكرامة ،ما دام الخطأ حالة طارئة خفيّة عاشها ،ويشعر بثقلها في داخله .
بين العمل الصالح والنفس الصالحة
إن الإسلام يؤكّد على احترام الفرد في خطئه ،وحصر الخطأ في الدائرة الخاصة المتصلة بالمسؤولية ،لينال جزاءه عليه ،أو ليتراجع عنه ،وعلى احترام المجتمع في جوّه العام ،وإبعاد الأجواء الشرّيرة ،وما يوحي بها من كلام وخطوات ..وهذا في الحالات التي لا تفرض المصلحة العامة التشهير بالمنحرف كعقوبةٍ علنيّةٍ ،من خلال ما يفرضه الردع القانوني الشرعي من وسائل حاسمة في ذلك .
وقد ورد في الحديث الشريف عن الرسول ( ص ) ،في ما رواه الإمام الصادق عنه ،قال:"من أذاع فاحشةً كان كمبتدئها ".
وقد تحدث الإمام جعفر الصادق ( ع ) عن بعض النماذج التطبيقيّة للآية ،في ما رواه بعض أصحابه ،كما جاء في كتاب الكافي ،قال: من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه ،فهو من الذين قال الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وقد جاء التعبير عن هؤلاء الذين يعملون على إشاعة الفاحشة في المجتمع المؤمن ،بقوله:{يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} ،باعتبار أن الحب للشيء يدفع إلى التحرك نحوه ،أو باعتبار أن الفعل الذي يقوم به صاحبه ،ينطلق من حبّ ذاتيٍّ له ،وذلك في لفتةٍ إيحائيّة ،بأن الله يريد للإنسان أن يربّي نفسه على تنظيف قلبه من الميل المنحرف والشعور العدوانيّ والنيّة الشرّيرة ،لأن ذلك هو أساس السير في خط الاستقامة في الحياة ،فلا يكفي في الصلاح أن يكون العمل صالحاً في طبيعته ،بل لا بد من أن تكون النفس صالحة في مشاعرها ودوافعها ..وقد ورد في الحديث الشريف: «إنما الأعمال بالنيّات ،ولكل امرئ ما نوى » ،وفي حديث آخر: «يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة » ،ما يوحي بأن النيّة تمثل عمق المسؤولية في العمل ،وليس العمل وحده ..
وقد نستوحي من التعبير عن هؤلاء بأنهم من{الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا} ،التأكيد على أن في نشرهم للفاحشة على مستوى الكلمة سعياً لتحريك المجتمع في هذا الاتجاه ،من خلال تحطيم الضوابط الأخلاقية التي تدفع الفرد إلى الالتزام بالخط الأخلاقي السليم .
وفي ضوء ذلك كله ،كانت العقوبة شديدةً تشمل الدنيا والآخرة في ما جاءت به الآية .
العذاب الأليم لمحبّي إشاعة الفاحشة
{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدُّنْيَا والآخرة} لأنّ هناك انتهاكاً لحقّ العباد ،في الإساءة إلى سلامة الفرد والمجتمع في كرامتهما وأخلاقيتهما ،وإساءة لحقّ الله في عصيان نواهيه ،ما يستوجب مضاعفة العقوبة ،لتكون للدنيا عقوبتها التي تحمي المجتمع من طغيان هؤلاء وامتدادهم في حياته ،ولتكون للآخرة عقوبتها ،في ما يفرضه العدل الإلهي من مجازاة الإنسان على أعماله .
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ما تشتمل عليه هذه القضية من مفاسد ونتائج سلبيّةٍ على أكثر من صعيد ،مما يفرض الردع على كل المستويات .