{أَرأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} من هؤلاء الذين لا يتحركون في انتماءاتهم وعلاقاتهم وكلماتهم وأعمالهم وكل مشاريعهم في الحياة ،من قاعدةٍ فكريةٍ ،تحكم كل تطلّعاتهم في الحياة ،وتدير أوضاعهم ،فيرجعون إليها إذا ضل بهم الطريق ،ويقفون عليها إذا اهتزت المواقع ،بل يتحركون من خلال أهوائهم التي تنطلق من مواقع غرائزهم ،وفي حركة الرياح العاصفة أو الهادئة التي تطوف بالنفس من هنا وهناك ،بعيداً عن كل عوامل الثبات والاستقرار .
وبذلك كانت أهواؤهم بمنزلة الآلهة ،في ما يتعامل به الناس مع الآلهة من تقديس واحترام وطاعةٍ والتزامٍ بخط الرضا الذي يتطلع إليه المؤمنون بهم ،فهم يقتربون ويبتعدون ،ويتواصلون ويتقاطعون ،ويفعلون ويتركون ،ويقفون ويتحركون ،على أساس ما تتطلبه منهم هذه الأهواء ،حتى إذا كان ذلك بعيداً عن رضا الله وقريباً إلى سخطه .
أفرأيت هذا النموذج من الناس ،إنه يعيش القلق والحيرة والارتباك والضياع ،لأنه لا يملك أية قاعدةٍ للاستقرار ،ولا يعيش الوحدة في ما يتطلع إليه ،وفي ما يعبده ويلتزمه ،وفيمن يطيعه ،لأن الهوى الذي قد يكون واحداً في المفهوم العام ،قد لا يكون واحداً في مفردات الحركة ،بل هو متنوّع متقلّب ،مختلفٌ حسب اختلاف المزاج والغريزة والجوّ والمحيط ،وغير ذلك بما يتأثر به الإنسان بشكلٍ متناقض حسب اختلاف الزمن في ما يحتويه ويتحرك في داخله من مؤثرات .
وهذا التعبير القرآني عن الهوى بالإِله في التزام الناس اتباع الهوى ،إنما هو من دون اعترافٍ منهم بصفة الألوهية له ،بل قد تكون مستغربة منهم لو أطلقها أحد عليه من خلال ذلك ،لأن للإله معنىً متميزاً مقدّساً في وعيهم لا يقترب من هذا الواقع الذي يعيشونه .إن هذا التعبير القرآني يوحي بأن حركة المعنى في واقع الناس هي التي تحدّد الالتزام بالألوهية ،وليس الانتماء بالكلمة وبالصورة ،لأن الألوهية هي أن يلتزم الإنسان بالطاعة للمعبود ؛وبذلك كان الاستسلام للهوى في كل ما يدفع إليه من مواقف ،يمثل الالتزام بألوهيته من قبل هذا الإنسان ،تماماً كما هي عبادة الأشخاص ،حيث تتمثل في إطاعتهم والخضوع لإِرادتهم ،وإن لم يتخذوا لهم هذه الصفة بشكل مباشر .وهذا ما جاء في القرآن في قوله تعالى في عبادة الناس للشيطان:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [ يس: 6061] ،حيث اعتبر طاعة الشيطان عبادةً له ،وإن لم يعترف المطيعون بمعنى العبادة فيه ،كما أن عبادة الله تتمثل في السير على خط طاعته والبعد عن معصيته .
{أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} أي لست مسؤولاً عنه ومسلطاً عليه ،على سبيل الاستفهام الإنكاري ،لأنك لا تملك من أمره شيئاً ،ما دام مستقلاً في إرادته ،ورافضاً للالتزام بدعوتك .