{تلك الدار الآخرةُ نجعلُها للّذين لا يريدون علوّاً في الأرض} ،إنه المقياس الدقيق في مسألة الذين ينالهم الله برحمته ،ويدخلهم في جنته ،بعيداً عن كل الشكليات السطحية في سلوكهم ،فلا بد لهم أن يعيشوا الحياة الإنسانية في موقع التوازن الذي يعرف فيه الإنسان قدر نفسه بشكل دقيق ،كما يعرف قدر غيره ،ليتواضع في نفسه عندما يعرف نقاط ضعفها ونقاط قوتها ،وليتواضع لغيره عندما يقارن بين نقاط قوة الآخرين ونقاط ضعفه ،وبذلك يعرف لكل إنسانٍ حقه وقدره ،فيدفعه ذلك إلى الامتناع عن نزعة التكبر والاستعلاء وإرادة العلو في الأرض على الناس .
وإذا كانت الآية تتحدث عن الإرادة كحالةٍ داخليةٍ في شخصية الإنسان ،فليس المقصود بها الجانب الداخلي في ذاته ،كما لو كان معنىً في النفس أو شعوراً في الوجدان ،بل المقصود بهاوالله العالمالانعكاس الخارجي للحالة ،باعتبار أن كل ما في الداخل يظهر في الخارج ،وأن المشروع العمليّ يبدأ فكرةً ،ثم يتحول إلى واقعٍ ،من خلال الرغبة في وصوله إلى درجة الفعل ،وهكذا يكون التعبير بذلك عن المتكبرين الذين يتحركون في حكمهم وعلاقاتهم من موقع الحالة الاستكبارية التي تحتقر الناس ،والذين يسخِّرون الحياة كلها ،في ما تملكه من مقدراتها ،لخدمة أهدافهم الشخصية .
{وَلاَ فَسَاداً} مما يتصل بالحياة العامة والخاصة للناس ،في ما يخططون ويتكلمون ويعملون .والمراد بالفساد ،الحركة التي توجب الخلل في توازن الفرد والجماعة في دائرة القيم الروحية والإنسانية ،وذلك بالعمل على ظلم الناس وتوجيه حياتهم في خط الباطل ،وإبعاد القيادة العادلة عن مراكز الحكم والنفوذ وإقرار الشريعة التي ترتكز على أساس التمايز في المواقع لخدمة الانحراف بعيداً عن دائرة المساواة في خط الاستقامة ،في المجال الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري ،فإن الله يرفض ذلك كله ،ويرفض أهله ،ويريد للناس الذين يتقبلهم في جنته ،ويقبلهم في رضوانه ،أن يعملوا على إصلاح البلاد والعباد في جميع الأمور .
وقد وردت الأحاديث المتنوعة في تطبيق الآية على الواقع ،كما في مجمع البيان عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب( ع ) أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو دالٌ يرشد الضال ويعين الضعيف ،ويمر بالبيّاع والبقال ،فيفتح عليه القرآن ويقرأ:{تِلْكَ الدَّارُ الاَْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ويقول:"نزلت هذه الآية في أهل العدل والمواضع من الولاة ،وأهل القدرة من سائر الناس » .
وفي الدر المنثور روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «التجبر في الأرض والأخذ بغير الحق » .
{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} فهم الذين يحبهم الله ويرضى عنهم ،لأن التقوى التي عاشوها في أنفسهم ،وحركوها في سلوكهم وعلاقاتهم ،تمثل إرادة الله في الحياة ،وتجعل الآخرة في متناول أيديهم ،لأنهم استحقوها بجهدهم وجهادهم في سبيله .وهؤلاء المتقون ،هم الذين يريدهم الله أن يحكموا الحياة في شؤون أنفسهم وفي شؤون الناس ،لأنهم هم الأمناء على العدل كله وعلى الحق كله .