مفهوم القرآن للحياة الدنيا والحياة الآخرة
ما هو مفهوم القرآن للحياة الدنيا ؟وما هو مفهومه للحياة الآخرة ؟وما هو موقفه منهما ؟
إن هذه الآية تشرح الفكرة من خلال المقارنة بين الحياة الدنيا والدار الآخرة .
الحياة الدنيا لهو ولعب
{وَمَا هَذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ}ماذا في الحياة الدنيا مما يتنافس فيه الناس ويتصارعون من أجله ؟إن هناك الأموال والأزواج والأبناء والجاه المتحرك في مواقع الرئاسة ،وفي تجمعات الأتباع والأنصار ،وفي الشهوات الحسية ،وما إلى ذلك من شؤون الحياة وقضاياها ،مما يأخذ الناس به فترةً يشغلون بها أنفسهم ويستغرقون فيها بالمستوى الذي يفصلهم عن القضايا المهمّة المرتبطة بمصيرهم ،ويشغلهم عن التفكير في أعماق ذواتهم ،وعن المستقبل في اليوم الآخر ،ثم يتركونه عندما تهرب منهم الفرص ،وهم أحياء ،أو عندما تضيع منهم الحياة أمام استحقاق الموت ،ما يجعل المسألة في طبيعتها مسألة لهوٍ يملأ فراغ الإنسان ويشغل حياته ،ثم يفارقه بعد وقت قصير ،من دون أن يبقى له منه إلا الانفعالات التي سرعان ما تتبخر وتذوب أمام الأحداث الجديدة ،أو اللهو الجديد .
هذه هي الروحية التي تكمن وراء تعامل الناس مع قضايا الدنيا ،فلا نلمح فيها إلا الحالات الانفعالية السريعة التي يجتمع فيها الناس حول هذه الأمور التي يتولعون فيها ،ويستغرقون في لذائذها وشهواتها وحركاتها ،ثم تنتهي فرصة ذلك ،ويتفرقون ،ويترك كل واحد منهم صاحبه ،كما يترك أدوات الشغل التي تأخذ كل اهتماماته ،تماماً كما هو اللعب الذي لا يحمل في داخله أيّ هدفٍ يمتد بامتداد الزمن ،بل يحمل في عمقه الانفعال المزاجي الذي يلتهب في الذهن وفي العاطفة ،ثم يتبخر ليواجه الفراغ الجديد الذي يعيش الرعب أمام الاستحقاقات الصعبة .
إن هذه الحياة الدنيا التي تتجرد عن قضية الرسالة التي تمنحها امتداداً وبقاءً وعمقاً هي لهو ولعب ،لأنها لا تملأ الفراغ بما يبقى ،بل تشغله بما يفنى ،ثم يترك الإنسان ذلك كله ليواجه الفراغ القاتل في غياهب الظلام .
الدار الآخرة هي المستقر
{وَإِنَّ الدَّارَ الآخرةَ لَهيَ الْحَيَوَانُ} وهذه الكلمة مصدر كالحياة ،وقيل: الحياة التي لا موت فيها ،لأنها التي تعبر عن معنى الحياة بكل دقائقها ومفرداتها ،فلا فراغ فيها للعدم ،ولذلك فإن الاهتمام بها والتخطيط لها ،يحملان في داخلهما الحصول على الحياة الخالدة التي يملك فيها الإنسان حياته ومصيره المشرق الذي ينير له كل مواقع الرضوان الإلهي والنعيم الدائم .ولكن المسألة تحتاج إلى وعي كامل للخط والوسيلة والهدف ،ومعرفةٍ ممتدّةٍ عميقةٍ واسعةٍ ،مما قد يجهل الكثيرون من الناس طبيعته وخطورته ليتداركوا الأوضاع السلبية التي يتحركون فيها{لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} ولكن الغفلة المطبقة على عقولهم تمنعهم من ذلك كله .
وعلى ضوء هذه المقارنة بين الحياة الدنيا ،التي تحمل دور الحالة الطارئة التي تنتظر الموت في نهايتها ،وبين الدار الآخرة التي تمثل الحياة الخالدة التي لا موت فيها ،نستطيع استيحاء الفكرة التي تجعل الثبات للدور الإنساني في الحياة قائماً على الخط الذي يربط بين الدنيا والآخرة من خلال الرسالة التي تحكم تفكير الإنسان وخطواته وتطلعاته في علاقته بالله ،ما يجعل دنياه آخرة في نتائجها الممتدة بامتداد نتائج الرسالة في قضية المصير ،كما يجعل من الآخرة عنواناً للدنيا وهدفاً لها .وبذلك نفهم أن الإسلام لا يرفض الحياة الدنيا ،إلا من خلال اعتبارها فرصةً للهو واللعب الذي لا يجعل لها عمقاً في المصير ،ولذلك فإنه يقبلها ويدعو إليها ويعتبرها قيمةً روحيةً إذا تحركت في خط الرسالة المنفتحة على الله في رضوانه وعلى الجنة التي وعد الله بها المتقين في الدار الآخرة .