ومن أجل أن يحوّل القرآن أفكارهم من أفق هذه الحياة المحدودة إلى عالم أوسع من خلال منظار العقل ،فإنّه يبيّن في الآية التالية كيفية الحياة الدنيا قياساً إلى الحياة الأُخرى الخالدة ،في عبارة موجزة ومليئة بالمعاني ،فيقول: ( وما هذه الحياة الدنيا إلاّ لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ) .
كم هو تعبير بليغ وبديع !لأنّ «اللهو » معناه الانشغال ..أو كل عمل يصرف الإنسان إليه ويشغله عن مسائل الحياة الأساسية .
أمّا «اللعب » فيطلق على الأعمال التي فيها نوع من النظم الخيالي ،والهدف الخيالي أيضاً ،ففي اللعب يكون أحد اللاعبين ملكاً ،والآخر وزيراً ،والثّالث قائداً للجيش ،والرابعالسارق أو «الحرامي » ،والخامس يمثل القافلة وهكذا ،وبعد انتهاء اللعب المؤقت يعود كل شيء إلى مكانته ،وكأن المسألة لا تعدوا طيفاً ..أو خيالا ..فلا أثر ولا خبر .
فالقرآن في هذا الصدد يشرح حال الدنيا وحال الآخرة ،مبيناً أن الحياة الدنيا هي نوع من الانشغال واللعب يجتمع الناس فيها وينشدّون إلى تصورات قلوبهم وأنفسهم ،وبعد أيّام يتفرقون ويختفون تحت التراب ،ثمّ يطوى كل شيء ويغدو في سلة النسيان .
أمّا الحياة الحقيقية التي لا فناء بعدها ،ولا ألم فيها ،ولا قلق ولا خوف ولا تضاد ولا تزاحم ،فهي الحياة الآخرة فحسب ...لو كان الإنسان يعرف ذلك ،وكان أهلا للتدقيق والتحقيق !
أمّا الذين تعلقت قلوبهم بهذه الحياة ،وفتنوا برزقها وزخرفها وزبرجها ،ويأنسون بها ،فهم أطفال لا غير وإن امتدت أعمارهم سنين طويلة .
وينبغي الالتفات إلى أنّ المراد من «الحيوان » على زنة «خفقان » هو الحياة ،فهذه الكلمة تحمل معنى مصدرياً{[3194]} ..
وهذا التعبير ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ) إشارة إلى أن الحياة الحقيقية هي في الأخرى ،لا في هذه الدار الدنيافكأنّ الحياة في الأُخرى تفور من جميع أبعادها ،ولا شيء هناك إلاّ الحياة .
وبديهي أن القرآن لا يريد أن ينسى وينفي مواهب الله في هذه الدار الدنيا ،بل يريد أن يجسد قيمة هذه الدنيا بالقياس إلى الأُخرى قياساً صريحاً وواضحاً ...وإضافةً إلى كل ذلك فإنّه ينذر الإنسان لئلا يكون أسيراً لهذه المواهب ،بل ينبغي أن يكون أميراً عليها ،ولا يؤثرها على القيم الأصيلة أبداً .
/خ66