ويتصاعد الدُّعاء من أعماق القلوب صافياً نقيّاً حاراً صادقاً ،ويستجيب اللّه للدُّعاء ؛ولكن القضية ليست قضية ما يتحرّك في الدُّعاء من كلمات ،بل في ما يمثِّله من مواقف ،فإنَّ اللّه لا يتعامل مع النَّاس إلاَّ من خلال العمل الذي تتحرّك الرحمة في داخله ومن خلاله .فالعاملون الذين يصيبون في عملهم ،أو الذين يخطئون وهم يريدون الإصابة ،هم القريبون من المواقع الطبيعية للاستجابة وللرحمة .أمّا الذين لا يعملون ،بل يعيشون الحياة عجزاً واسترخاءً وكسلاً وراحةً ،فهم البعيدون عن رحمته القريبون إلى سخطه ،لأنَّهم تنكّروا لسنّة اللّه في الحياة ولصراطه المستقيم في العقيدة والشريعة .[ فاستجاب لهم ربُّهم أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى] فلكلّ واحد جزاء عمله من دون فرق بين الذكر والأنثى ،لأنَّ قضية العمل الصالح لا تختلف في خصائص الذكورة والأنوثة ،بل تنطلق من خصائص الإنسانية في حركتها الصاعدة في الحياة .فللأنثى نصيبها من نتائج العمل الصالح ،وللذكر نصيبه منه ،فربَّما تتفوّق عليه في عملها فتنال الدرجة العليا لدى اللّه ،وربَّما يتفوّق عليها في عمله فينال ذلك من خلال جهده ،[ بعضُكم من بعضٍ] فقد خلق اللّه الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر في عملية التوالد الطبيعي .
أمّا العمل الأفضل في حركة الدعوة ،وحماية الدِّين ،وابتغاء مرضاة اللّه ،وتحمّل الخروج من ديارهم ،والأذى في سبيل اللّه ،والقتال الذي هو السبيل للتكفير عن السيئات وللدخول إلى الجنَّة [ فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفِّرنَّ عنهم سيئاتهم ولأدخلنَّهم جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند اللّه واللّه عنده حُسنُ الثَّواب] .
1قد نستطيع أن نستوحي من هذه الآيات الفكرة عن شخصية المؤمن في الإسلام ،فهي شخصية الإنسان الواعي المفكّر الذي يحرّك طاقته الفكرية في سبيل الوصول إلى قناعاته الإيمانيّة من وحي التفكير والمعاناة والتجربة والملاحظة ،فلا يعتقد بشيء إلاَّ على أساس ذلك .وعندما نلتقي بشخصية الإنسان المفكّر المؤمن في خطّ العقيدة ،فإنَّ من الطبيعي أن نلتقي بها في خطّ الحياة ،فلا ينطلق مع أحداثها إلاَّ في خطّ الفكر والتجربة ،لأنَّ ملامح الشخصية لا تتعدّد في مضمون الأشياء .فإذا كان الإنسان عاطفياً في جانب ،فإنَّه يتحرّك عاطفياً في بقيّة الجوانب ؛وهكذا تكون القضية في خطّ الفكر في الحياة .ولكن شخصية المفكّر لا تلغي شخصية الإنسان الروحاني الذي يعيش الروحيّة العميقة تجاه اللّه ،من خلال ما يعيش من مشاعر روحيّة ،لأنَّ الفكر لا يتحرّك من مواقع الجفاف النفسي ،بل ينطلق من أعماق الينابيع المتدفقة في الحياة في ما تشتمل عليه من أفكار ومشاعر ...ولهذا نجد الانطلاقة الروحيّة في هذه الآيات في حركة الانطلاقة الفكريّة في هذه المناجاة الخاشعة التي تلتقي باللّه في مغفرته ورضوانه ورحمته لعباده المؤمنين ،ليبقى الإنسان منسجماً مع إيمانه في روحيّة اللقاء باللّه والسعي لرضاه ،باعتباره هدف الحياة الكبير ،كما يعيش الانسجام معه في فكره العميق الذي يطرد من حوله الشكوك والشبهات ويركّز الخطّة الواحدة لحياته من خلاله .
2وقد نستوحي من هذه الآيات ،أنَّ قضية الجنَّة تلتقيفي حركة الإنسان المؤمن في الحياةبالجانب الجهادي الذي يعيش فيه المعاناة نتيجة ما يتعرّض له من اضطهاد وما يتحمّله من أذى ،وما يضطرّ إليه من الوقوع تحت ضغط القوى الغاشمة التي تخرجه من داره وموطنه وتدفعه إلى الهجرة قسراً من خلال الضغوط القاسية التي تُمارسها ضدَّه ،وذلك كلّه من أجل اللّه ،وابتغاءً للحصول على رضوانه .
ومن خلال ذلك ،ندعو أولئك الذين يعيشون الحياة في استرخاء ،ويعتبرون الجنَّة ملتقى للعابدين الذين يغرقون كلّ همومهم وآلامهم وتطلّعاتهم في العبادة ،وينعزلون عن الحياة في عمليّة هروب دائمة من التعرّض للخطر في المسير ،ليأخذوا لأنفسهم ولمن يتعلّق بهم الأمن والراحة والطمأنينة ،في الوقت الذي تهتز فيه الساحة أمام التحدّيات الكافرة والضالّة ...إنَّنا ندعوهم إلى أن يقرأوا هذه الآيات بوعي وتأمّل ،ليعرفواجيِّداًأنَّ هؤلاء الذين استجابوا لداعية الإيمان فآمنوا ،لم يأخذوا الإيمان في كسلٍ واسترخاءٍ ،بل انطلقوا فيه رسالةً وجهاداً ومعاناةً ومواجهةً قوية لكلّ الضغوط والتحدّيات الطاغية ،فأوذوا في سبيل اللّه ولم يسقطوا تحت تأثير الأذى ،وأخرجوا من ديارهم وهاجروا من دون أن يتعقّدوا من الجهاد وخطواته ونتائجه ...
ولهذا كانت الجنَّة ثمناً لكلّ هذا الجهد ولكلّ هذا الجهاد ،وكانت دعواتهم المتصاعدة من قلوبهم تمثِّل دعوات المجاهدين الذين يخافون على جهادهم أن يضعف ويهتز وينحرف أمام بعض الخطايا التي يرتكبونها من دون قصد ،ويخشون على علاقتهم باللّه أن تنقطع من خلال الأوضاع التي تحيط بهم فتبعدهم عن اللّه وتنسيهم ذكره ...ولهذا يشعر الإنسان بنبض القلوب يتحرّك في كلّ كلمة من هذه الكلمات ،حتَّى كأنَّ قلوبهم تحوّلت إلى دعوات وكلمات ،وليست كالدعوات التي تنطلق من قلوب هادئة بعيدة عن جوّ المعاناة ،حيث يتمثّل الإيمان فيها كما لو كان ترف فكرٍ لا كخفقة روح وشعور .إنَّ هناك فرقاً بين أن تدعو اللّه من موقع المعاناة في سبيله ،وبين أن تدعوه من موقع المعاناة في سبيل ذاتك ،وذلك هو الفرق بين الذين يعيشون الإسلام فكراً واسترخاءً ،وبين الذين يعيشونه جهاداً وعملاً وموقف حياة .