يقول تعالى:( فاستجاب لهم ربهم ) أي:فأجابهم ربهم ، كما قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
قال سعيد بن منصور:حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن سلمة ، رجل من آل أم سلمة ، قال:قالت أم سلمة:يا رسول الله ، لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ؟ فأنزل الله [ عز وجل] ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ) إلى آخر الآية . وقالت الأنصار:هي أول ظعينة قدمت علينا .
وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة ، ثم قال:صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه .
وقد روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أم سلمة قالت:آخر آية أنزلت هذه الآية:( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) إلى آخرها . رواه ابن مردويه .
ومعنى الآية:أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا - مما تقدم ذكره - فاستجاب لهم ربهم - عقب ذلك بفاء التعقيب ، كما قال تعالى:( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) [ البقرة:186] . وقوله:( أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ) هذا تفسير للإجابة ، أي قال لهم مجيبا لهم:أنه لا يضيع عمل عامل لديه ، بل يوفي كل عامل بقسط عمله ، من ذكر أو أنثى .
وقوله:( بعضكم من بعض ) أي:جميعكم في ثوابي سواء ( فالذين هاجروا ) أي:تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران ، ( وأخرجوا من ديارهم ) أي:ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجئوهم إلى الخروج من بين أظهرهم ، ولهذا قال:( وأوذوا في سبيلي ) أي:إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده ، كما قال تعالى:( يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ) [ الممتحنة:1] . وقال تعالى:( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) [ البروج:8] .
وقوله:( وقاتلوا وقتلوا ) وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله ، فيعقر جواده ، ويعفر وجهه بدمه وترابه ، وقد ثبت في الصحيح أن رجلا قال:يا رسول الله ، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر ، أيكفر الله عني خطاياي ؟ قال:"نعم "ثم قال:"كيف قلت ؟ ":فأعاد عليه ما قال ، فقال:"نعم ، إلا الدين ، قاله لي جبريل آنفا ".
ولهذا قال تعالى:( لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) أي:تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب ، من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
وقوله:( ثوابا من عند الله ) أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم ، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلا كثيرا ، كما قال الشاعر:
إن يعذب يكن غراما وإن يع ط جزيلا فإنه لا يبالي
وقوله:( والله عنده حسن الثواب ) أي:عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحا .
قال ابن أبي حاتم:ذكر عن دحيم بن إبراهيم:حدثنا الوليد بن مسلم ، أخبرني حريز بن عثمان:أن شداد بن أوس كان يقول:يا أيها الناس ، لا تتهموا الله في قضائه ، فإنه لا يبغي على مؤمن ، فإذا نزل بأحدكم شيء مما يحب فليحمد الله ، وإذا نزل به شيء مما يكره فليصبر وليحتسب ، فإن الله عنده حسن الثواب .