الضعف طبيعة بشرية والقوّة المطلقة للّه وحده:
في هذه الآية ،يريد اللّه سبحانهكما في أكثر الآيات القرآنيةأن يُفرّغ نفوس النَّاس من كلّ إحساس بالتعظيم والاحترام والرهبة من القوى الكافرة الطاغية الباغية التي تواجه اللّه بالتمرّد في الفكر والعمل ،وذلك من أجل إرجاعهم إلى إنسانيّتهم الحقيقية في الانفتاح على ما حولهم ومن حولهم بواقعيّة وانطلاق وموضوعيّةٍ ،فلا يتصوّرون الأشياء بأكبر من حجمها الحقيقي في طبيعتها وفي تأثيرها ،لأنَّ المشكلة التي يعيشها الإنسان في حياته ،هي أنَّ الصورة التي يواجهها في ما يشاهده من القوى المسيطرة في الكون ،تملأ نفسه بالرهبة والشعور بالصّغار والانسحاق أمام هذه القوى ،ويتحوّل ذلك إلى خضوع لكلّ أفكارهم وأوضاعهم المنحرفة ،ما يؤدّي إلى انحراف المنحرفين وتنازل الكثيرين عن خطّهم .
وهذا هو المنطق الذي يفرض نفسه على كثير من الساحات الإسلامية في العالم ،ولا يزال يفرض نفسه على ساحتنا الآن ،فنحن ننظر إلى القوى في مرحلتها المتقدّمة ولا ننظر إليها في حالة ولادتها ،أو في حالة انحسارها ،فنشعر بالضعف أمام ذلك كلّه ...أمّا إذا تبدّل هذا المنطق ،فأصبحنا ننظر إليها في مراحل بداياتها أو نهاياتها ،فإنَّنا سننظر إلى القوّة كمرحلة مجرّدة من مراحل نموّ الإنسان وتطوّره ،فنتعامل معها ،من خلال ذلك ،تعاملاً واقعياً ليس فيه الكثير من حالات الانفعال والتضاؤل ...وهذا ما أراد القرآن الكريم أن يثيره أمام الإنسان في أكثر من صورة ،فنراه يعرض هؤلاء الذين يعتبرهم النَّاس آلهة في حالات ضعفهم ولا يلتفت إلى حالة قوّتهم ،لأنَّه يهدف إلى إبراز جوانب الضعف ،ليعيش الإنسان الشعور بواقعية الضعف في حياتهم كشيء طبيعي جداً .فإذا رأوا جانب القوّة لديهم ،نظروا إليه نظرة متوازنة تثير المقارنة بين الحالتين ،فتتوازن من خلال ذلك النظرة والتصرّف والعلاقة والاتباع ،وذلك كما في قوله تعالى: [ إنَّ الذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطَّالِبُ والمطلوب] ( الحج:73 ) .
فإنَّ الآية تواجه هؤلاء الذين يعتقد النَّاس أنَّهم آلهة معبودون من دون اللّه في ما يثيره ذلك التصوّر من قوّتهم وضخامة شخصيتهم ،فتضع أمامهم شخصية الذباب في ضآلته وحقارته ،ثُمَّ توحي بأنَّ هؤلاء الكبار الضخام الذين قد يشيّدون القصور الكبيرة والقلاع المحصّنة ،لا يستطيعون خلق الذباب ولو اجتمعوا له وبذلوا طاقاتهم فيه ،لأنَّهم لا يملكون القدرة على الخلق حتَّى في أشدّ الأشياء حقارة ،فتتضاءل الصورة وتتصاغر ،ويتعمّق الشعور بأنَّ قضية القوّة الإلهية لا تكمن في القدرة على إعلاء البناء فقط ،بل تتمثَّل في إبداع الروح في الأشياء مهما كانت حقيرة ،لأنَّ ذلك هو الشيء الذي يميّز الخالق عن المخلوق .
وتتصاعد الفكرة في اتجاه جديد ،فهذه الذبابة الصغيرة الحقيرة تملك من القدرة على أن تسلبهم بعض الأشياء من قوّتهم وصحتهم ،فلا يستطيعون إرجاع ذلك منها ولا يملكون استنقاذه ،فأيّ ضعف هو هذا الضعف الذي يتمثّل في هؤلاء الأقوياء الذين إذا ملكوا القوّة في جانب ،فإنَّ الضعف يتمثّل فيهم في جوانب أخرى .وتلك هي القصة في الأشياء التي يتمثّل فيها الضعف من جهة وتتحرّك فيها القوّة من جهة أخرى ،لتتوازن النظرة في الإنسان ،فلا يصعد إلى ما لا يبلغه من الدرجة لدى نفسه ولدى الآخرين .
صورة الكافرين في القرآن:
وتنطلق هذه الآية في هذا الاتجاه: [ لا يغرنَّك تقلُّب الذين كفروا في البلاد] فقد يخضع الإنسان للشعور بالانسحاق أمام القوّة الكبيرة المتمثّلة في حركة الكافرين ،عندما يفتحون بلداً أو يحكمون آخر ويسيطرون على شعب من الشعوب ،وقد يغرّه ذلك ،فيمتد معهم في ما لا يستحقونه ،ويستسلمون له استسلام الأمل الكبير للفرص الخالدة الممتدة المتعاظمة أمامهم ،التي توحي إليهم بالكثير من الأطماع والشهوات ،فيستريحون إلى ذلك كلّه في ما ينتظرهم من مستقبل الأيام الطويلة ...ولكن القرآن يريد أن يربطهم بواقع الأشياء ويُبعدهم عن الأجواء الخياليّة المتحرّكة بالأحلام الضبابيّة ؛فلكلّ واحدٍ منهم عمر محدود وطاقة محدودة ،ولكلّ واحد منهم نقاط ضعف في ذاته وفي حكمه .إنَّهم مجرّد مرحلة في حياة الأمّة ،قد تتسع وقد تضيق ،وقد تمتد وقد تنكمش ...ولكنَّها سوف تنتهي في وقت قصير [ متاعٌ قليلٌ] .