في الآيات السابقة إشارات إلى سطوة المشركين ؛ إذ آذوا المؤمنين ، وأخرجوهم من ديارهم ، وقاتلوهم وقتلوا منهم ، وقد بين سبحانه انه سيجزي المؤمنين على صبرهم وهجرتهم ، وجهادهم ، ولكن قد يعرض للخاطر:لماذا يكون هؤلاء المشركون في هذه القوة وتلك النعمة الدنيوية ؟فجاء النهي الكريم ليمنع من توسوس له نفسه من ان يغتر بما عليه هؤلاء المشركون من قوة وسطوة ومتاع دنيوي ، والنهي موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومعناه:لا يصح ان تغر بما عليه المشركون من قوة ومال ، وهو نهى لكل المؤمنين ، وفيه إشارة إلى ان هذه الحال من شانها ان تغر وتخدع من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، فكان النهي لهذا ، وليس من مقتضى النهي ان يكون قد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم غرور ، فالنهي عن امر من شانه ان يقع في النفوس ليس دليلا على وقوعه ، ولذلك روى ان قتادة قال:والله ما غروا نبي الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قبضه الله إليه . ولقد قال الزمخشري في توجيه النهي للنبي صلى الله عليه وسلم:"فيه وجهان ؛ أحدهما:مدرة{[655]} القوم ومتقدمهم خاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعا ، فكأنه قال لا يغرنكم . والثاني:ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم ، فأكد ما كان عليه وثبت ما كان على التزامه كقوله:{ ولا تكن مع الكافرين42}[ هود] ،{ ولا تكونن من المشركين87}[ القصص] ،{ فلا تطع المكذبين 8}[ القلم] ، ومعنى غره أصاب غرته ، والغرة غفلة في اليقظة .
والتقلب التصرف ، ومن ذلك قوله تعالى:{ وتقلبك في الساجدين219}[ الشعراء] ، ومعنى تقلب هؤلاء الأعداء في البلاد تصرفهم فيها حاكمين مسيطرين أقوياء ينتقلون أحرارا من بلد إلى بلد ، وجملة معنى النص الكريم:لا يصح ان يخدع احد بما عليه أولئك الناس من قوة وسطوة وتصريف في شئون البلاد ، فغن هذا إلى أمد قصير ، وهو متاع قليل ، ولذا قال سبحانه:{ قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} .