ووقف زكريّا مدهوشاً مما يسمعه ،وأخذته الحيرة من ذلك كله ،هل هو في حلم أم في يقظة ؟هل هي كلمات الرحمن أم هي شيء من التخييل ؟إنه يفكر في الحواجز الطبيعية التي تحول بينه وبين ذلك ،لقد مضى عليه مدة طويلة حتى بلغ مبلغ الشيخوخة وامرأته عاقر لا تحمل ،ولم يرزق بولد ،فكيف تحدث تلك المفاجأة بمثل هذا التفصيل .تحدث في ما يشبه الاستغاثة التي تريد أن تخرجه من الحيرة ...
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} وجاء الجواب ،إنك تتحدث مع الله الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون ،فهو الذي خلق الأشياء وخلق معها القوانين والأسباب الطبيعية ،وهو القادر على أن يغيّرها في أيّ وقت يريد في ظل قوانين جديدة ،فما قيمة الحواجز الطبيعية أمام قدرة الله المطلقة حتى يفكر فيها الإنسان المؤمن ؟{قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} ،{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [ البقرة: 117] ،وكأن زكريّا قد اقتنع بذلك ورجع إلى ما يوحيه إيمانه من التسليم لله في كل شيء ،ولكنه يريد آية .
واختلف المفسرون في معنى هذه الآية ،فقال بعضهم إنها العلامة التي يعرف من خلالها أن ما سمعه هو من وحي الله ،وذلك بأن يجعل الله له ما يشبه المعجزة ،وأوحى الله إليه بأن الآية هي أن يُعتقل لسانه ،فلا يستطيع أن يتكلم ،ولا يملك أن يخاطب الناس إلا رمزاً مدة ثلاثة أيام ،وقال بعضهم: إنها علامة الشكر على هذه النعمة غير المترقبة ،فأوحى الله إليه كما أوحى إلى مريم بصوم الصمت الذي كان مشروعاً آنذاك ،ولعلّ هذا هو الأقرب ،لأنه لا معنى للارتياب بعد أن جاءه الجواب بالتذكير بقدرة الله ،ولأن الظاهر أن الوحي كان بالامتناع الاختياري عن الكلام مع الناس وبذكر الله كثيراً وبالتسبيح الدائم بالعشي والإبكار .