[ ذلِكَ مِنْ أَنبَآء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ] لتعيش التاريخ الرسالي في حركته الروحية وفي نماذجه المميّزة ،كما لو كنت في زمانه ،فتنطلق التجربة الحيّة في رسالتك لتكون منطلقاً للسموّ والصفاء ،وانفتاحاً على العبرة الواعية التي تمنح الحاضر درساً متحرّكاً في تجربته من خلال الماضي في عملية تواصل بين الزمانين كمظهر للتواصل بين الرسالات{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقلامهم} لتي يكتبون بها ،أو أقواسهم التي كانوا يقترعون بها بما جعلوه عليها من علامات يعرفونها بها [ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ] ويرعاها ويحفظها ويربيها بعد أن فقدت أباها وأمها ،[ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ] فقد كان التنافس بينهم شديداً حتّى بلغ حدّ الخصومة ،لأنَّ الظاهر أنَّ كفالة مريم كانت تمثّل لهم امتيازاً يمنحهم الشرف ،وينفتح بهم على الخير ،وهكذا كانت النتيجة خروج القرعة على اسم زكريا عليه السَّلام ،الذي أراد اللّه له أن يكون الكفيل لمريم ( ع ) ،لأنَّه يمثّل الإنسان النبيّ الصالح الذي يمكن أن يحقّق لها النمو الطبيعي والتربية الصالحة .
شرعية القرعة:
وقد نستفيد من هذه الآية شرعية القرعة كحلّ للمنازعات التي قد تحدث بين النّاس إذا لم يكن هناك أساس معتبر للجدّ ،أو فرصة مناسبة للتفضيل في الواقع ،وأريد العدل في التحديد أو في القسمة بحسب حالة النزاع التي لم يتفق فيها الأشخاص المعنيّون على شيء معيّن بالتفاهم والتوافق ،كما في هذه القضية التي وقعت موضعاً للخصومة الشديدة ،فلم يجد القوم سبيلاً للوفاق إلاّ الأخذ بالقرعة التي ارتضوا بها باعتبار أنَّها الطريقة المعروفة لديهم في مثل هذه الأمور .وهذا هو ما حدث ليونس عندما اقترع الركاب في السفينة لتحديد الشخص الذي يُقدّم للحوت الذي يهدّد السفينة بالغرق إلاَّ إذا قدّم إليه أحدهم ليلتقمه ؛وذلك هو قوله تعالى: [ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ] ( الصافات:141 ) .وروي أنَّ النبيّ محمَّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم اقترع بين نسائه عندما كان يريد السفر لاختيار واحدة منهن لصحبته ،كما أنَّه أمر بها في بعض الموارد ،وقد أقرّها علماء الإمامية من ناحية المبدأ ،استناداً إلى ما ورد في الكتاب والسنة ،وما أُثِر عن الأئمة من أهل البيت( ع ) في ذلك ،فقد ورد عن محمَّد بن حكيم قال: سألت أبا الحسن موسى الكاظم( ع ) عن شيء فقال: «كلّ مجهول ففيه القرعة ،قلت له: إنَّ القرعة تخطئ وتصيب ،فقال: كلّ ما حكم اللّه به فليس بمخطئ » ،وقد روي عن الإمام جعفر الصادق( ع ) أنَّه قال: ما تقارع قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلاّ خرج سهم المحقّ ،وقال: «وأيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى اللّه عزَّ وجلّ ؟أليس اللّه تبارك وتعالى يقول: [ فَسَهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ] »
( الصافات:141 ) ،وقد تعدّدت الرِّوايات عن عليّ( ع ) أنَّه استعملها في كثير من أقضيته .
أمّا أبو حنيفة وأصحابه ،فقد استبعدوا الأحاديث الواردة فيها ،واعتبروها تشبه الأزلام التي نهى اللّه عنها .
وقد أُثير خلاف حول ما إذا كانت القرعة تحدّد الواقع المجهول إذا اشتبه أمره بين شيئين ،بحيث يختص موردها بما إذا كان الحقّ معيناً في الواقع واشتبه علينا ظاهراً لعارض ،أو يشمل ما كان مردّداً بين شيئين أو أكثر ولم يكن معيناً في الواقع أيضاً ويُطلب فيه الشيئان ،ومن هذا القسم ما كان من الأمور المشتركة بين ذوي حقوق ولم يتراضوا بسهم عيّنه بعضهم بغير معين .والظاهر أنَّ القرعة قاعدة عقلانية جرى عليها العقلاء في أمورهم العامّة والخاصّة كوسيلةٍ من وسائل حسم الأمور المتنازع فيها ،إذا لم يكن هناك وسيلة خاصة معتبرة للوصول إلى نتيجة حاسمةٍ ،وذلك من خلال ما ينطلقون به في تنظيم أمورهم في النظام العام الذي يلتزمونه بشكل عام ،بحيث يلومون ويؤنّبون الخارج عن هذا النظام .وقد درج العقلاء على الرجوع إلى أمارات خاصة ووسائل معينة لتحديد القضايا وحلّ المشكلات ،مما قرروه من وسائل الإثبات في القضاء وغيره ،ولكنَّهم قد يواجهون في حياتهم بعض المواقف التي لا يملكون فيها أيّة وسيلة معينة للتعيين أو للتحديد ،فكانت القرعة حلاًّ حيث لا حلَّ ،من دون فرق بين ما إذا كان هناك واقع يُراد تعيينه ،أو كانت المسألة موضع إشكال أو تنازعٍ للأخذ بخيار خاص ،لأنَّ الأساس فيها هو أن لا تبقى القضية بعيدةً عن الحسم الذي يحلّ به النزاع ويرتفع به الإشكال .
وفي ضوء ذلك ،فإنَّ القضية من القواعد العقلانية الإنسانية التي لا يختلف فيها شعب عن شعب ،فهي من القضايا التي تدفع إليها الحاجات البشرية العامة في حلّ المنازعات على قاعدةٍ يرضى بها الجميع .
وربَّما كان أخذ الأنبياء والأئمة ( ع ) بها منطلقاً من صفتهم العقلائية ،إمّا من باب الإمضاء للبناء العقلائي الذي يعني إقرار العقلاء على ما يسيرون عليه في نظام حياتهم ،فيكون الحكم الشرعي إمضائياً ،وإمّا من باب أنَّ الشريعة لا تحتاج إلى التشريع في مثل القرعة لأنَّ للعقلاء شريعة منطلقة من فطرتهم الصافية بإلهامٍ من اللّه ،فتكون القضية تماماً كالقضايا الأخرى في طريقة طعامهم وشرابهم ولباسهم وسكنهم التي لم يحدّد اللّه للنّاس فيها طريقة معينة ،بل ترك الأمر لهم في خطّ النظام العام من دون أن يصدر فيه حكماً شرعياً خاصاً ،إذ لا مقتضى له بعد أن كان الواقع العقلاني واقعاً موافقاً للمصالح العامة للنّاس .
القرعة: عبادة وابتهال:
وقد جاءت الأحاديث عن أئمة أهل البيت( ع ) لتجعل للقرعة معنى دينياً في أسلوب دعائي ابتهالي ،يرجع فيه المقترعون إلى اللّه ،طالبين منه أن يلهمهم الصواب ويخرج لهم الحقّ ،فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق( ع ) في الصحيح في رواية الفضيل بن يسار المروية في الكافي والتهذيب ،قال: سألت أبا عبد اللّه( ع ) عن مولود ليس له ما للرجال ولا ما للنساء ؟قال: يقرع الإمام أو المقرع يكتب على سهم ( عبد اللّه ) وعلى سهم
( أمة اللّه ) ،ثُمَّ يقول الإمام والمقرع: اللّهم أنت اللّه لا إله إلاَّ أنت عالم الغيب والشهادة ،أنت تحكم بين عبادك ما كانوا فيه يختلفون ،فبيّن لنا أمر هذا المولود كيف يورّث ما فرضت له في الكتاب ؟ثُمَّ يطرح السهمان في سهام مبهمةٍ ،ثُمَّ يُجال السهام على ما خرج ،وورِّث عليه .
وهكذا تتحوّل القرعة في مضمونها الديني الجديد إلى عمليةٍ تتضمن معنى العبادة والدعاء ،فهيفي هذا الجوّوسيلة من وسائل تفويض الأمر إلى اللّه ،عندما تتعقد الأمور وتدفع إلى الشلل والحَيْرة ،وتخرجبذلكعن دائرة الأزلام المعروفة في الجاهلية التي كانوا يستقسمون بها ،وهذا ما يجعل للطمأنينة النفسية في نتائجها أساساً في العقيدة التوحيدية التي تدعو النّاس إلى التفويض إلى اللّه والرضى به .ولهذا فإنَّها لا يمكن أن تقع على سبيل التجربة التي لا تنطلق من الجدّية في الوصول إلى الحل ؛وهذا ما رواه في التهذيب صحيحاً عن جميل قال: قال الطيار لزرارة: ما تقول في المساهمة «القرعة » أليس حقّاً ؟فقال زرارة: بل هي حقّ .فقال الطيار: أليس قد رووا أنه يخرج سهم المحقّ ؟قال: بلى .قال: فتعال حتى أدّعي أنا وأنت شيئاً ثُمَّ نساهم عليه وينظر هكذا هو ،فقال زرارة: إنَّما جاء الحديث بأنَّه ليس قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه ثُمَّ أقرعوا إلاّ خرج سهم المحقّ ،فأمّا على التجارب فلم يوضع على التجارب ،فقال الطيار: أرأيت إن كان جميعاً مدّعيين ادعيا ما ليس لهما من أين يخرج سهم أحدهما ؟فقال زرارة: إذا كان كذلك جُعل معه سهم مبيح ،فإن كان ادعيا ما ليس لهما خرج سهم المبيح .
وهذه الثقة بالنتائج ليست منطلقة من طبيعة العملية كلعبة خاصة يحاول اللاعبون أن يجرّبوا فيها حظهم ،بل هي قضية إخلاص روحي في الرجوع إلى اللّه ،ليختار لهم ما فيه صلاحهم أو ما فيه تعيين الحقّ في الواقع ،ما يجعل للمسألة بُعداً إيمانياً في الروح ،لا مجرّد بُعدٍ إلهيّ في الوسائل .