مناسبة النزول:
جاء في أسباب النزولللواحديعن ابن عباس: أنَّ رجلاً من الأنصار ارتدّ فلحق بالمشركين ،فأنزل اللّه تعالى: [ كيف يهدي اللّه قوماً كفروا بعد إيمانهم] إلى قوله: [ إلاَّ الذين تابوا] ،فبعث بها قومه إليه ،فلمّا قرئت عليه قال: واللّه ما كذبني قومي على رسول اللّه ،ولا كذب رسول اللّه على اللّه ،واللّه عزَّ وجلّ أصدق الثلاثة .فرجع ثانية ،فقبل منه رسول اللّه ( ص ) وتركه .
ونلاحظ في هذه الرِّواية نقطة مهمّة ،وهي قبول توبة المرتد ،وربَّما يرى البعض أنَّ المرتد الملّي تقبل توبته ،ولعلّ الكثيرين في زمن النبيّ ( ص )ومنهم هذا الشخصكانوا من الكافرين الذين أسلموا بحيثُ لم يكن إسلامهم فطرياً ليكون ارتدادهم عن فطرة ،ولكن الظاهر أنَّ الآية مطلقة لكلّ مرتد ،مليّاً كان أو فطرياً ،لأنَّ السياق يتحدّث عن المبدأ العام ،وهو قبول التوبة إلى اللّه في كلّ مورد من موارد الكفر والتمرّد .
وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق ( ع )كما في مجمع البيانفي سبب نزول هذه الآية ...أنَّها «نزلت في رجلٍ من الأنصار يُقال له حارث بن سويد بن الصامت ،وكان قتل المحذر بن زياد البلوي غدراً ،وهرب وارتد عن الإسلام ولحق بمكة ،ثُمَّ ندم ،فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول اللّه ( ص ): هل لي من توبة ؟فسألوا ،فنزلت الآية إلى قوله: [ إلاَّ الذين تابوا] ،فحملها إليه رجل من قومه ،فقال: إنّي لأعلم أنَّك لصدوق ،ورسول اللّه ( ص ) أصدق منك ،وأنَّ اللّه أصدق الثلاثة .ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه » .
إنَّ اللّه يفتح للإنسان أبواب الهداية من خلال البيّنات التي تجتمع لديه ،والبراهين التي تحصل عنده ،مما لا يبقى معه شك ولا ريب .وبذلك تنطلق الدعوة إلى الإيمان ،كعقيدة وموقف ،من موقع القناعة الثابتة المرتكزة على أساس الحجّة الواضحة .وفي هذا الجوّ الذي تقوم فيه الحجّة عليه ،لا يسمح اللّه له بالسلبيّة واللامبالاة فضلاً عن الإنكار والعناد ،فإنَّ الإيمان يمثِّل قضية المصير الذي لا مجال للتلاعب به ،وقضية الحياة التي يرتبط فيها سلوك الفرد بسلامة المجتمع ،الأمر الذي يجعل منه شيئاً أساسياً ،ويُعطي صفة التمرّد والمكابرة لمن ينحرف عنه .وقد عالج القرآن في هذه الآيات الموقف الإلهي من هؤلاء ،فتساءل في البداية عن جوّ الإنكار [ كيف يهدي اللّه قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنَّ الرَّسول حقٌّ] فقد أقام اللّه لهم الحجّة التي فرضت عليهم الإيمان في أعماقهم ،والشهادة الداخلية في كيانهم ،والإعلان عن ذلك بألسنتهم ؛فقد دخلوا في الإسلام وأصبحوا جزءاً من مجتمع المسلمين ،فلا مجال للشك والشبهة بعد أن كانت القضية في مستوى الوضوح الكبير .ولكنَّهم كفروا وأظهروا الكفر ،فكيف يهديهم اللّه ،في الوقت الذي لا يريدون فيه لأنفسهم السير في طريق الهدى ،وظلموا أنفسهم بكفرهم .وقد جرت حكمة اللّه أن يقوم الإنسان إلى الهداية من طريق الاختيار والإرادة والحجّة والبرهان ...فإذا تمت لديه عناصرها ثُمَّ انحرف عنها غروراً وطغياناً وكبراً ،فإنَّ اللّه يتركه لنفسه ولا يتدخل بطريقة غيبيّة لفرض الهداية عليه على أساس الجبر ،[ وجاءهم البيِّناتُ واللّه لا يهدي القوم الظَّالمين] بعد أن قامت عليهم الحجّة من قِبله .