/م86
أما قوله تعالى{ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم} فهو استبعاد لهداية هؤلاءكما قال البيضاوي وإيئاس للنبي صلى الله عليه وسلم منهم .وفسرت المعتزلة الهداية بالألطاف الذي يكون من الله للمؤمنين أو بالهداية إلى الجنة وأهل السنة بخلق المعرفة قالهما الرازي وكلاهما ضعيف .وفسرها ابن جرير بالتوفيق والإرشاد فأما الإرشاد فقد أوتوه ولولا ذلك لكانوا معذورين ولولاه لما كان لإيمانهم بعد مجيء البينات معنى ، والصواب ما أشرنا إليه من أن المعنى استبعاد هدايتهم بحسب سنن الله تعالى في البشر وإيئاس النبي صلى الله عليه وسلم من إيمانهم .ووجه الاستبعاد أن سنة الله تعالى في هداية البشر إلى الحق هي أن يقيم لهم الدلائل والبينات مع عدم الموانع من النظر فيها على الوجه الذي يؤدي إلى المطلوب .وكل ذلك قد كان لهؤلاء ولذلك آمنوا من قبل{ وشهدوا أن الرسول حق} ثم كفروا مكابرة لأنفسهم ومعاندة للرسول حسدا له وبغيا عليه .أو المعنى:بأي كيفية تكون هداية من كفروا بعد إيمانهم والحال أنهم قد شهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات التي تبين بها الحق من الباطل والرشد من الغي .ولم يغن عنهم ذلك شيئا لغلبة العناد والاستكبار على نفوسهم والحسد والبغي على قلوبهم ، فكانوا بذلك ظالمين لأنفسهم باستحباب العمى على الهدى{ والله لا يهدي القوم الظالمين} أي مضت سنته بأن الظالم لا يكون مهتديا .
وقال الأستاذ الإمام:في تفسير الآية طريقتان:إحداهما شهادتهم بأن الرسول حق:هي أنهم كانوا يعرفون بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم وكانوا عازمين على اتباعه إذا جاء في زمنهم وانطبقت عليه العلامات وظهرت فيه البشارات .ثم إنهم كفروا به وعاندوه بعد مجيئهم بالبينات لهم وظهور الآيات على يديه .والله لا يهدي أمثال هؤلاء الظالمين لأنفسهم والجانين عليها .ووضع الوصف"الظالمين "مكان الضمير لبيان سبب الحرمان من الهداية ، فإن الظلم هو العدول عن الطريق الذي يجب سلوكه لأجل الوصول إلى الحق في كل شيء بحسبه .فذكره من قبيل ذكر الدليل على الشيء بعد ادعائه وما كان من تنكب هؤلاء باختيارهم لطريق الحق وهو العقل وهدى النبوة بعد ما عرفوه بالبينات وهو نهاية الظلم .( قال ):والهداية هنا هي التي أمرنا بطلبها في سورة الفاتحة وهي الإيصال إلى الحق لأن سائر معاني الهداية عام لهم ولغيرهم .
والطريقة الثانية:هي أنهم كفروا بعد ما سبق لهم من الإيمان بالرسلفالرسول على هذا القول للجنسوجاءهم البينات على ألسنتهم وذلك بتركهم ما اتفق عليه أولئك الرسل من التوحيد الخالص وإسلام الوجه لله وإخلاصه له بالبراءة من حظوظ النفس وأهوائها في الدين واستبدالهم بهذه الهداية ما وضعوا لأنفسهم من التقاليد والبدع .وحاصل المعنى على هذه الطريقة:كيف ترجو يا محمد هداية هؤلاء المعاندين لك ظنا أن معرفتهم بالكتاب والإيمان جعلتهم أقرب الناس إلى معرف حقيقة ما جئت به بعد ما علمت من كفرهم بحقيقة ما كانوا عليه من الإسلام بنقضهم الميثاق وتحريفهم الكلم .أقول:والكلام على هذه الطريقة مبني على اعتبار الأمة كالشخص لتكافلها كما قرره مرارا .فالمراد بكفرهم بعد إيمانهم كفر مجموع الحاضرين وأمثالهم بعد إيمان مجموع سلفهم لا أن كل واحد من الكافرين كان مؤمنا ثم كفر .