{وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا}في أجواء الهدوء النفسي والطمأنينة الروحية ،والاستقرار الغريزي ،والهدوء العاطفي ،في طبيعة التكامل الإنساني في علاقة الرجل بالمرأة ،في ما يحس به كل واحد منهما أن الآخر جزءٌ من ذاته وقطعةٌ من نفسه ،بحيث يعيش في فراغٍ شعوري هائل عندما يشعر بالابتعاد عنه والحرمان منه ،وذلك من خلال طبيعة الانجذاب الذاتي الذي يتحرك في كيان الإنسان من خلال الفطرة التي فطر الناس عليها ،ما يجعل من المسألة مسألةً لا تقتصر على الجانب الجنسي في حرارة العلاقة المتكاملة ،بل تتعداه إلى سائر الجوانب الروحية والشعورية ذات الآفاق المتنوّعة في أحاسيس الإنسان وتطلعاته .وهكذا يكون التعبير بالسكن في دائرة العلاقة الزوجية ،تعبيراً حيّاً يتجاوز السكينة الجسدية الباحثة عما يشبع جوع الغريزة ويروي ظمأها ،إلى السكينة الروحية التي يخرج بها الإنسان من الشعور بالعزلة والوحدة والوحشة ،إلى الشعور بالاندماج والأنس والالتقاء بالآخر ،ما يعمّق في داخله السكينة الروحية في كل آفاق الذات .وربما كان التعبير بكلمة «أزواجاً » إيحاءً بالعلاقة الزوجية التي تمثل الرباط الوثيق الشرعي بين الرجل والمرأة ،فهي التي يحس كلٌّ منهما فيها بالشعور بامتلاء الفراغ الروحي في ذاته ،حيث يشعر بأن هناك إنساناً ينتظره ويخصُّه ويعيش معه مسؤولية الحياة كلها ،كما يعيش معه مسؤوليته تجاه نفسه ،تماماً كما هو الجزء مع الجزء ،بينما لا تمثل العلاقات الحرّة مثل هذا العمق الشعوري في السكينة الروحية ،إذ يعيش الأشخاص في داخلها ،ويعبّون من اللذات الجسدية ما شاءت لهم شهواتهم ،ولكنهم يرجعون إلى أنفسهم ،فيشعرون بالفراغ والقلق بأقسى ما يكونان ،لأن الجانب الجسدي وحده ،في نطاق العلاقات غير المرتبطة بالوثاق الشرعي ،لا يحقق أيّ شيء من ذلك .
علاقة الزواج بالمودة والرحمة في الإسلام
{وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} في ما أودعه في عمق إحساس الرجل والمرأة ،من مشاعر الحبّ والودّ ،ومن علاقة الرحمة النابضة بالروح الكامنة في حركة الحياة لديهما ،في ما يكفل معه كل واحدٍ منهما الآخر ،فيتحمل مسؤوليته ،فيتألّم لألمه ويفرح لفرحه ،ويقوم برعايته في حالات ضعفه ،من موقع الرحمة المتحركة في الذات ،المرفرفة في الروح والشعور .
وهذا هو سرُّ الإِعجاز في تكوين الإنسان الذي يعيش التنوّع في طبيعة الخصائص الذاتية ،ولكنه يتحرك في اتجاه الوحدة والتكامل من خلال حاجة كل خصوصيةٍ إلى الخصوصية الأخرى ،بحيث تفقد معنى الحياة من دون التكامل معها ،ولذلك فهي تتجه إليها تلقائياً بكل محبّة ورعاية وانجذاب ورحمة تنطلق في حركة الإحساس والممارسة .
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ويكتشفون من خلال الفكر المتأمّل العميق أسرار خلق الإنسان في تفاعل خصائص الروح وخصائص الجسد ،فينفتح الجسد على الروح في نداء الذات التي لا ترتاح لخصائص الجسد إذا لم تقضِ عليها الروح بمعانيها الروحية ،وتتحرك الروح في اتجاه الجسد لتكون حركته وخصوصيته أساسيَّتين في توليد المشاعر الروحية في أفعال العبادة وأخلاقية الممارسة .
وقد نلاحظ أن الله يريد للناس أن يجعلوا التفكير أساساً لحركة العقيدة في الذات ،في ما يكشف لها من دلائل العظمة في خلق الله ،ما يوحي لها بعظمة الله من أقرب طريق ،ويؤكد على الحقيقة الإيمانية في انطلاق الإيمان من حركة العقل في الإنسان ،لا من المشاعر العمياء التي لا تخضع للحجة أو الدليل .
وإذا كان الله قد جعل العلاقة الزوجية مبنيّةً على المودة والرحمة في ما هو الانجذاب الذاتي بين الزوجين ،فقد نستوحي من ذلك أنه يريد لهما أن يعملا على إخضاع الحركة الإِراديّة في داخل الحياة الزوجية لهذين العنصرين ،فتكون المودة القلبية أساساً روحياً للعلاقة بينهما من خلال ما يحمل أحدهما للآخر من مشاعر الود ،وتكون الرحمة القائمة على أساس دراسة كل منهما عقلية الآخر وظروفه الخاصة الذاتية والعملية ،بحيث يراعيها ويأخذها في الحسبان ،وبالتالي عليه أن يرحمه من خلال تقديره لكل العوامل السلبية والإيجابية التي يخضع لها في حركة الخطأ والصواب في علاقته بالآخر ،أو في تصرفاته الشخصية في نفسه ،ما يجعل العلاقة مرتكزة على العنصر الداخلي الحميم فيما بينهما ،أكثر مما هي مرتكزة على القانون في قيوده .