{قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} في نداء المعرفة الذي يريد أن يقتلع الجواب من الأعماق ،حيث ترقد حقائق العقيدة ،فمن هو الذي ينزل الماء من السماء فتصبح الأرض مخضرّة ،وتتحوّل أعماقها إلى ينابيع ؟ومن هو الذي يخرج النبات من الأرض فيتفتّح عن كل ما يبني للجسد قوّته ،ويعطي للحياة حيويّتها ونضارتها واستمرارها ؟ويبدأ التفكير يفرض نفسه عليهم عندما يثيرون علامات الاستفهام أمام كل هؤلاء الذين يشركون بهم ويتعبدون لهم من دون الله ،فلا يرون لهم حولاً ولا قوّة في ذلك كله ،بل يرونهم أعجز من ذلك ،لأنهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً في كل شيء إلا بالله .ويستمر السؤال في إلحاحه ،ويأتي الجواب{قُلِ اللَّهُ} الذي يبقى في معناه يثير الفكر ،ويغني المعرفة ،ويحقق القناعة الإيمانية في نهاية المطاف ،وقد يكون في هذا الأسلوب الذي يثير السؤال من دون انتظار للجواب بعض الإيحاء بأن الفكرة واضحةٌ في انسجامها مع خط الإيمان ،بحيث أن المسألة لا تحتاج إلى أخذٍ وردّ ،مع توجيه الإنسان إلى إن الإسلام يحترم فكره ،ولهذا فإنه يثير المعرفة من موقع الفكر ،لا من موقع الفرض .
خط الحياد الفكري في أسلوب الدعوة
{وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِين} وهذا هو الأسلوب الإنساني الرائع في تحريك أجواء الحوار في خط الحياد الفكري ،حيث يطلق المحاور المؤمن الفكرة في دائرة الاحتمال الذي يساوي بين فرضية الخطأ والصواب ،أو الهدى والضلال ،ليتقدم إلى الآخرين بروحية الباحث عن الحق في نطاق الفكرة ،فيطرح المسألة في ساحة الشك ،كما لو كان يعيش الاهتزاز الإيمانيّ ،باحثاً عن الكلمات التي توضح له موقع الخطأ من موقع الصواب الذي يلتزمه ،أو يلتزمه الآخرون .
وفي ضوء ذلك ،نفهم أن حركة الحوار في الإسلام ترتكز على أساس القاعدة العلمية التي ترى في الشك طريقاً إلى اليقين ،وترفض القناعات القائمة على أساس إهمال الحوار وإغفال الفكر والإصرار على العناد ،ما يجعل من الحوار الفكري حركةً إيجابيةً في الجواب عن علامات الاستفهام المنفتحة على كل آفاق الحرية في المعرفة ،بما يثيره العقل من قضايا ومشاكل وآراء .
وقد جاءت هذه الآية لتؤكد على هذه القاعدة الفكرية الحوارية التي تؤكد قاعدة «الشك في طريق اليقين » ،فأكدت على أن الأسلوب العملي السليم هو الذي يعتمد على تفريغ الموقف من الأفكار المسبقة التي تحوّل الموقف إلى عقدةٍ تفرض نفسها على كل مواطن الحوار ،وتشكِّل حاجزاً يمنع الأطراف من الشعور بحريّة الحركة في ما يقبلون ويرفضون ،ويتمثل ذلك في اعتبار الشك في الفكرة موقفاً مشتركاً بين الطرفين ،يوحي لكلٍّ منهما بضرورة إعادة النظر في القضية ومحاولة مواجهتها من جديد كما لو لم يواجهها من قبل ،فليس هناك حكمٌ سابقٌ من أيٍّ من الطرفين على الخصم بالهدى أو بالضلال ،بل هو الموقف المشترك الذي يريد أن يصل إلى الحقيقة من خلال الحوار الإيجابي القائم على الوعي والشعور العميق بالحاجة إلى الوقوف مع خط الإيمان بالنتائج أيّاً كانت ،وهذا ما تجسِّده هذه الآية ،فقد نلاحظ أن النبيكما علَّمه اللهلم يعط في أسلوبه هذا لنفسه صفة الهدى ،ولم يدمغ خصمه بصفة الضلال ،مع إيمانه العميق بأن المسألة في واقعها الأصيل لا تبتعد عن ذلك ،ليترك الحوار يأخذ مجراه دون تعقيد وصولاً إلى النتيجة الحاسمة من موقع الحرية الفكرية المنطلقة مع الحوار في الخط الصحيح .
وقد تكون قيمة هذا الأسلوب أنه يجرد الموقف من أيّة حساسياتٍ إيحائية في النظرة إلى الذات وإلى الآخرين ،حيث يترك الفكرة بعيدةً عن الالتزامات المؤيدة في جانب صاحبها ،أو المضادّة في الجانب الآخر ،خلافاً للطريقة المعروفة في الأسلوب المطروح علمياً للحوار ،الذي يقول: «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب » ،بينما الطرح القرآني البديل الذي يبلغ القمة في إنسانية الطرح وحياديته ،يرفع شعار «رأيي ورأي غيري يحتمل الخطأ والصواب في درجةٍ واحدةٍ » .