يقول تعالى: ( قل من يرزقكم من السموات والأرض ) .
بديهي أن لا أحد منهم يستطيع القول بأنّ هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي التي تنزل المطر من السماء ،أو تنبت النباتات في الأرض ،أو تسخّر المنابع الأرضية والسماوية لنا .
الجميل أنّهبدون إنتظار الجواب منهميردف تعالى قائلا: ( قل الله ) .
قل الله الذي هو منبع كلّ هذه البركات ،أي أنّ الأمر واضح إلى درجة لا يحتاج إلى جواب من طرف آخر ،بل إنّ للسائل والمجيب رأياً واحداً ،لأنّ المشركين يعتقدون بأنّ الله هو الخالق والرازق ،والأصنام لها مقام الشفاعة فقط .
من الجدير بالملاحظةأيضاًأنّ الأرزاق التي تصل إلى الناس من السماء ليست محصورة بالغيث ،بل إنّ النور والحرارة الصادرة عن الشمس ،والهواء الموجود في جوّ الأرض ،هي الاُخرى لا تقلّ أهميّة عن قطرات المطر .
كما أنّ بركات الأرض كذلك ،ليست محصورة في النباتات ،بل إنّ المنابع المائية تحت سطح الأرض ،والمعادن المختلفة التي كانت معروفة في ذلك الوقت والتي عرفت بعد مرور الزمان تندرج تحت هذا العنوان أيضاً .
آخر الآية تشير إلى موضوع يمكنه أن يكون أساساً لدليل واقعي ومتوائم مع غاية الأدب والإنصاف ،بطريقة تستنزل الطرف المقابل من مركب الغرور والعناد الذي يمتطيه ،وتدفعه إلى التفكّر والتأمّل ،يقول تعالى: ( وإنّا أو إيّاكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين ){[3498]} .
وهذا إشارة إلى: أنّ عقيدتنا وعقيدتكم متضادّتان ،وعليهبناءً على إستحالة الجمع بين النقيضينفلا يمكن أن تكون الدعوتان على حقّ ،لذا فمن المحتّم أن يكون أحد الفريقين أهل هدى ،والثّاني أسير الضلال .
والآن عليكم أن تفكّروا في أيّ الفئتين على هدىً ،وأيّهما على ضلال ؟..انظروا إلى علامات وخصائص كلّ منهما ،ومدى تطابقها مع علامات الهدى والضلال .
وهذا أحد أفضل أساليب المناظرة والبحث ،بأن يضع الطرف الآخر في حالة من التفكّر والتفاعل ،وما يتوهّمه البعض أنّ ذلك نوع من التقيّة فهو منتهى الإشتباه .
الملفت للنظر هو ذكر «على » من «الهدى » و «في » مع «الضلال » ،إشارة إلى أنّ المهتدين كأنّهم يركبون مركباً سريعاً ،أو يستعلون مناراً عالياً ويتسلّطون على كلّ شيء ،في حال كون الضالّين مغمورين في ظلمة جهلهم .
ومن الجدير بالملاحظة كذلك هو أنّه تعالى تحدّث عن «الهدى » أوّلا ثمّ «الضلال » ،وذلك أنّه قال: «إنّا » في بداية الجملة أوّلا ،ثمّ قال «إيّاكم » ،لتكون تلميحاً إلى هدى الفريق الأوّل ،وضلالة الفريق الثاني .
ورغم أنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ وصف «المبين » يرتبط فقط ( بالضلال ) ،بلحاظ أنّ الضلال أنواع وضلال الشرك أوضحها .ولكن يحتمل أيضاً أن يكون هذا الوصف للهدى والضلال على حدّ سواء ،لأنّ «الصفة » في مثل هذه المواردلا تتكرّر لتكون أكثر بلاغة ،وعليه فيكون ( الهدى ) مبنياً و ( الضلال ) مبنياً ،كما ورد في كثير من آيات القرآن{[3499]} .
/خ27