{أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} وهذا هو السؤال الكبير الذي يواجه المنكرين للبعث ،فهم يقرّون بأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض ،في هذا النظام البديع الرائع الذي يتحرك بكل دقّةٍ وإتقان وروعةٍ في دائرة القوانين الطبيعية المودعة في داخله ،بكل مفردات الظواهر المتحركة فيها ،فإذا كانت القدرة الإلهية بهذا المستوى العظيم ،فهل يعجز عن خلق هذه المخلوقات الإنسانية الصغيرة التي تتجمع من أجزاء مادية متناثرة محدودة ،ونفس حيّة وكلها في علم الله ،وذلك بإعادتها من جديد ؟!{بَلَى} فإن القادر على الوجودات الضخمة قادر على الوجودات الصغيرة{وَهُوَ الْخَلاّقُ} الذي يخلق خلقاً بعد خلق ،{الْعَلِيمُ} الذي يحيط بكل عناصر خلقه وبكل أوضاعها .
مع صاحب تفسير الميزان
وقد قرّب صاحب تفسير الميزان استفادة معنى إعادة الخلق للجزاء بعد الموت من قوله{عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} تقريباً فلسفياً دقيقاً ننقله بتمامه ،قال: «بيانه أن الإنسان مركب من نفس وبدن ،والبدن في هذه النشأة في معرض التحلّل والتبدّل دائماً ،فهو لا يزال تتغير أجزاؤه ،والمركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه ،فهو في كل آنٍ غيره في الآن السابق بشخصه ،وشخصية الإنسان محفوظة بنفسهروحهالمجرّدة المنزهة عن المادّة والتغيرات الطارئة من قبلها المأمونة من الموت والفساد .
والمتحصل من كلامه تعالى ،أن النفس لا تموت بموت البدن وأنها محفوظةٌ حتى ترجع إلى الله سبحانه كما تقدم استفادته من قوله تعالى:{وَقَالُواْ أَئذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ* قُلْ يَتَوَفّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [ السجدة:1011] .
فالبدن اللاَّحق من الإنسان إذا اعتبر بالقياس إلى البدن السابق منه كان مثله لا عينه ،لكن الإنسان ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الإنسان ذي البدن السابق كان عينه لا مثله ،لأن الشخصية بالنفس وهي واحدة بعينها .
ولما كان استبعاد المشركين في قولهم:{مَن يُحيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} راجعاً إلى خلق البدن الجديد دون النفس ،أجاب سبحانه بإثبات إمكان خلق مثلهم ،وأمَّا عودهم بأعيانهم فهو إنما يتم بتعلق النفوس والأرواح المحفوظة عند الله بالأبدان المخلوقة جديداً ،فتكون الأشخاص الموجودين في الدنيا من الناس بأعيانهم ،كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيي الْمَوْتَى} [ الأحقاف:33] فعلق الإحياء على الموتى بأعيانهم ،فقال:{عَلَى أَن يُحْيي الْمَوْتَى} ولم يقل: على أن يحيي أمثال الموتى » .
وقد نلاحظ على هذا الكلام ،بأن هذا الفرق بين المثل والعين قد يكون ملحوظاً من الناحية الفلسفية الدقيقة بالطريقة التي ذكرها العلامة الطباطبائي ،ولكنه ليس ملحوظاً من الناحية العرفية التي جرى التعبير بلحاظها في هذه الآية على أساس الموازنة بين حجم السماوات والأرض وبين حجم الإنسان في مسألة الخلق ،بقطع النظر عن التفاصيل ،أما مسألة إرادة الإعادة بعد الموت فتستفاد من سياق الكلام ،وبذلك يكون المراد من مثلهم أنفسهم على طريقة الكناية ،كما ورد استعماله في أكثر من مورد .