مناسبة النزول
جاء في أسباب النزول للواحدي بسنده إلى ابن عباس قال: في سبب نزول هذه الآية ،«كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ،إن شاء بعضهم تزوّجها ،وإن شاؤوا زوّجوها ،وإن شاؤوا لم يزوّجوجا وهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك .رواه البخاري في التّفسير ،عن محمد بن مقاتل ،ورواه في كتاب الإكراه ،عن حسين بن منصور ،كلاهما عن أسباط .
قال المفسرون: كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة ،جاء ابنه من غيرها أو قرابته من عصبته ،فألقى ثوبه على تلك المرأة ،فصار أحق بها من نفسها ومن غيره ،فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق ،إلا الصداق الذي أصدقها الميت ،وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئاً ،وإن شاء عضلها وضارّها لتفتدي منه بما ورثت من الميت أو تموت هي فيرثها .فتوفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية ،فقام ابن له من غيرها يقال له محصن ، وقال مقاتل: اسمه قيس بن أبي قيس،فطرح ثوبه عليها ،فورث نكاحها ،ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارّها لتفتدي منه بمالها ،فأتت كبيشة إلى رسول الله( ص ) فقالت: يا رسول الله: إن أبا قيس توفي وورث ابنه نكاحي ،وقد أضرّني وطوّل عليّ فلا هو ينفق عليّ ،ولا يدخل بيّ ،ولا يخلّي سبيلي ،فقال لها رسول الله( ص ): اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله ؛قال: فانصرفت وسمعت بذلك النساء في المدينة فأتين رسول الله( ص ) وقلن: ما نحن إلا َكهيئة كبيشة غير أنه لم ينكحنا الأبناء ونكحنا بنو العم ،فأنزل الله تعالئ هذه الآية » .
وجاء في مجمع البيان عن الإمام محمد الباقر( ع ) ما مفاده أن الآية نزلت في الذين يحتفظون بزوجاتهم من دون أن يعاملوهن كالأزواج في انتظار أن يمتن ،فيأخذوا أموالهن من بعد وفاتهن
وجوب حفظ الحقوق المادية للزوجة
5{وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} .
في هاتين الآيتين تأكيد على وجوب احترام الحقوق المادية للزوجة من قبل الزوج ؛مهما كانت الظروف والحالات الطارئة ؛فليست هناك أية حالة مبررة للامتناع عن دفع المهر أو سلبها إياه ،لأنه حقٌ ثابتٌ تماماً كبقية الحقوق الأخرى التي تستحقها المرأة من خلال معاملات مادية عادية ؛وهناك تركيز على حالة معينة ،وهي حالة الطلاق التي عُبّر عنها بإرادة استبدال زوج مكان زوجوكلمة الزوج تطلق على الرجل والمرأةفقد يخيّل للزوج أن من حقه أن يأخذ المهر الذي دفعه للأولى من أجل أن يدفعه للثانية حتى لا يتعرض للخسارة ؛ويريد القرآن أن يؤكّد النهي عن ذلكبعضاً منه أو كلاًّلأنه بهتان من خلال ما يمثله من الباطل في العلاقات المالية ،تماماً كما هو البهتان الذي يمثل الافتراء في الكلمات ،ولأنه إثمٌ مبينٌ ،لما يُمثلّ من معصيةِ واضحةٍ لله ،باعتباره اعتداءً على حقوق الآخرين في ما لا يبيح الله الاعتداء فيه .
وتتصاعد القضية في المفهوم القرآني ،لتستثير الجانب الإنساني الذاتي في عمق مشاعر الإنسان ؛فتثير أمامه الأجواء التي كانت تمثل الاتحاد الجسدي والروحي ،الذي جعلهما كياناً واحداً ،مما يفرض على الزوج أن يُخلص لهذه العلاقة ويحترمها ويشعر بمسؤوليته تجاه هذه الإنسانة ،في كل ما تمثله الوحدة من روحية العطاء ،فلا يسلبها الحق الذي اكتسبته من خلال ذلك من دون مبرّر .ثم يؤكد الموقف بطريقةٍ أكثر قوة ،فيعتبر هذا التصرف نقضاً للعهد وتمرداً على الميثاق الغليظ المؤكد المشدّد ،الذي أخذته عليه من خلال عقد الزواج الذي جعل لها الحق في المهر على أساسه .وربما كان في التعبير عن الزواج بالميثاق الغليظ إِيحاءٌ بالنظرة الإسلامية التي يريد للزوجين أن ينظرا بها إلى علاقتهما ،فليست هي مجرد نزوة طارئة تنطلق من الحاجة إلى تلبية الرغبة الجنسية ،فإذا انطفأت بالإشباع انتهى كل شيء ؛بل هي عهد مؤكّد يشمل الحياة كلها في جميع التزاماتها ومسؤولياتها وحقوقها المتبادلة بينهما ،مما يجعل من حركة الرغبة جانباً من أجواء العلاقة ،وليست هي كل شيء فيها .
وقد جاء في الكافي وتفسير العياشي عن أبي جعفر محمد الباقر( ع ) في قول الله عزَّ وجلَّ:{وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} قال: الميثاق هي الكلمة التي عقد بها النكاح .
وجاء في مجمع البيان قال: «الميثاق الغليظ هو العهد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان… وهو المروي عن أبي جعفر( ع ) » وهذا المعنىكما يقول صاحب تفسير الميزان«منقول من عدة من مفسري السلف كابن عباس وقتادة وأبي مليكة ،والآية لا تأباه بالنظر إلى أن ذلك حكم يصدق عليه أنه ميثاق مأخوذ على الرجال للنساء ،وإن كان الأظهر أن يكون المراد هو العقد المجرى حين الازدواج » .
ونلاحظ أنه من الممكن أن يكون المعنى الثاني في التفسير الأخير من لوازم المعنى الأول ،فإن العقد الذي التزمه الزوج على نفسه وأكد التزامه به يفرض عليه أن يسير على الالتزامات العقدية التي يفرضها سرّ الزواج من إمساك المرأة بالمعروف إذا أراد البقاء معها على علاقة الزوجية ،أو تسريحها بإحسان إذا أراد إنهاء العلاقة التي يملك خيارها بمقتضى أحكام العقد فليسا تفسيرين مختلفين بل إن أحدهما لازم للآخر .
عقد الزواج ميثاق غليظ
وقد نلاحظفي هذا المجالأن كلمة «الميثاق الغليظ » لم ترد في القرآن إلاّ في عقد الزواج ،مما يوحي بالأهمية الكبرى التي يوليها الله سبحانه للعلاقة الزوجية بما لا يوليه لأية علاقة أخرى ،لأن أية علاقة إنسانية في الموارد الأخرى تختص بجانب من جوانب الحياة الخاصة للطرفين ،بينما تمثل علاقة الزواج اندماجاً روحياً وجسدياً في كل المدى الزمني الذي تلتصق حياتهمافيهببعضها في الليل والنهار في المفردات الصغيرة والكبيرة على هدى التعبير القرآني{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [ البقرة:187] ،فكأن كل واحد منهما يلبس الآخر ويدخل في داخل شخصيته ،الأمر الذي يترك تأثيره العميق الواسع على كلٍّ منهما في طبيعة حركة حياته وقرار مصيره ،مما يفرض الكثير من التأكيد والتوثيق في خط الالتزام من موقع عمق الكيان لا سطح الكلمة .