{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} بأن جعل الرزق ممتداً في حياة الناس تبعاً لرغباتهم وطموحاتهم من دون ضوابط حقيقية تركز الوضع الاقتصادي الإنساني على خطّ التوازن الذي يراعي المصالح الطبيعية في حاجات الإنسان الحيوية على المستوى الفردي والجماعي ،في ما ينسجم مع قضية التوازن في الحياة ،{لَبَغَوْاْ فِي الأَرْضِ} في علاقاتهم العامة والخاصة ،لأن الرزق الواسع يحرك موقع الأنانية التي تدفع الإِنسان إلى الحصول على كل شيءٍ لحسابه من دون حساب لمصالح الآخرين ،ما يقوده إلى العدوان وطلب السيطرة الوحشية على الناس ..لتتحوّل الحياة جراء ذلك إلى نوعٍ من الفوضى في ساحات الصراع .
{وَلكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ} على أساس الحكمة في التوزيع في خطةٍ تضع في حسابها الموازنة بين حاجات الإنسان النوعية وبين قضاياه في مجالات الفكر والحركة والرسالة المتصلة بواقع الحياة ،بحيث لا يلغى الصراع ،من خلال اختلاف الدرجات تبعاً لاختلاف الظروف والخصائص والمواقع ..ولكن الاختلاف لا يصل إلى حدّ الفوضى ،لوجود بعض الحدود التي تحفظ خط التوازن في الوجود الإنساني .
وقد تحدث صاحب تفسير الميزان عن أن هذا التقدير في توزيع الرزق ،«بيان للسنَّة الإلهية في إيتاء الرزق بالنظر إلى صلاح حال الناس ،أي أن لصلاح حالهم أثراً في تقدير أرزاقهم ،ولا ينافي ذلك ما نشاهد من طغيان بعض المثرين ونماء رزقهم على ذلك ،فإن هناك سنّة أخرى حاكمةً على هذه السنّة ،وهي سنّة الابتلاء والامتحان ،قال تعالى:{إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ} [ التغابن:15] وسنةً أخرى وهي سنة المكر والاستدراج قال تعالى:{سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ *وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [ الأعراف:182183] .
فسنّة الإصلاح بتقدير الرزق سنّة ابتدائية يصلح بها حال الإنسان ،إلا أن يمتحنه الله كما قال:{وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ} [ آل عمران:154] أو يغيّر النعمة ويكفر بها فيغيّر الله في حقه سنته فيعطيه ما يطغيه ،قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [ الرعد:11] » .
وقد نلاحظ على ذلك أن هناك تداخلاً بين سنّة الله في إيتاء الرزق وبين سنة الابتلاء والامتحان ،فإن الله سبحانه قد أجرى الرزق على أساس أن يكون التوزيع منطلقاً في مواقع السعة والضيق ،لا من موقع ابتلاء الغني في غناه ،وابتلاء الفقير في فقره ،لأن الابتلاء لا يختص بحالة الثراء كما يوحي به كلام صاحب التفسير .
{إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ} فهو المطّلع على شؤونهم بما يحقق مصالحهم في دنياهم وآخرتهم ،وهو الذي يبصر كل مواقعهم التي يخطط لهم فيها في ما يريد أن يحققه لهم من الخير والرعاية والتوفيق .