/م27
التّفسير
المترفون الباغون:
قد يكون ارتباط هذه الآيات بالآيات السابقة بلحاظ ما ورد في آخر آية من الآيات السابقة من أن الخالق يستجيب دعوة المؤمنين ،وفي أعقاب ذلك يطرح هذا السؤال: لماذا نرى البعض منهم فقراء ،ولا ينالون ما يرغبونه مهما يدعون ؟تقول الآية: ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء ) .
وبهذا الترتيب فإنّ تقسيم الأرزاق يقوم على حساب دقيق من قبل الخالق تجاه عباده ،وهذا يحدث بسبب: ( إنّه بعباده خبير بصير ) .
فهو يعلم بمقدار استيعاب أي شخص فيعطيه الرزق وفقاً لمصلحته ،فلا يعطيه كثيراً لئلا يطغى ،ولا قليلا لئلا يستغيث من الفقر .
وجاء ما يشبه هذا المعنى في الآية ( 6 ) و( 7 ) من سورة العلق: ( إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) .
وهو حقّاً كذلك ،فالبحث في أحوال الناس يدل على هذه الحقيقة الصادقة ،وأنّه عندما تقبل الدنيا عليهم ويعيشون في رفاهية وسعة ،ينسون الخالق ويبتعدون عنه ويغرقون في بحر الشهوات ،ويفعلون ما لا ينبغي فعله ،ويشيعون الظلم والجور والفساد في الأرض .
وفي تفسير آخر عن ( ابن عباس ) في هذه الآية ورد أن المقصود من ( البغي )
ليس الظلم والجور ،وإنّما ( بغى ) تعني( طلب ) أي يكون معنى الآية أنّهم يطلبون أكثر ولا يشبعون .
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل مقبول من قبل عدّة مفسّرين وهو الأفضل كما يظهر ،لأن عبارة: ( يبغون في الأرض ) وردت عدة مرات في الآيات القرآنية بمعنى الفساد والظلم في الأرض ،مثل: ( فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ){[4130]} و( إنّما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق ){[4131]} .
صحيح أن ( بغى ) وردت بمعنى ( طلب ) أيضاً ،إلاّ أنّها متى ما تذكر مع كلمة ( في الأرض ) فإنها تعني الفساد والظلم في الأرض .
وهنا يطرح سؤالان:
الأوّل: لو كان تقسيم الأرزاق وفق هذا البرنامج ،فلماذا إذن نرى أشخاصاً لهم رزق وفير وقد أفسدوا وطغوا كثيراً في الدنيا ولم يمنعهم الخالق ،سواء على مستوى الأفراد ،أو الدول الناهبة والظالمة ؟
وفي الجواب على هذا السؤال يجب الإنتباه إلى هذه الملاحظة ،وهي أن بسط الرزق أحياناً قد يكون أسلوباً للإمتحان والإختبار ،لأن جميع الناس يجب أن يُختبروا في هذا العالم ،فقسم منهم يختبرون بواسطة المال .
وأحياناً قد يكون بسط الرزق لبعض الافراد لكي يعلموا بأن الثروة لا تجلب السعادة ،فعسى أن يعثروا على الطريق ويرجعوا إلى خالقهم ،و نحن الان نرى بعض المجتمعات غرقى بأنواع النعم والثروات ،وفي نفس الوقت شملتهم مختلف المصائب والمشاكل ،كالخوف ،والقتل ،والتلوث الخلقي ،والقلق بأنواعه المختلفة .
فأحياناً تكون الثروة غير المحدودة نوعاً من العقاب الإلهي الذي يشمل بعض الناس ،فإذا نظرنا إلى حياتهم من بعيد نراها جميلة ،أمّا إذا تفحصناها عن قرب فسوف نشاهد التعاسة بأدنى حالاتها !،وفي هذا المجال هناك قصص عديدة لسلاطين الثروة في الدنيا ،حيث يطول بنا المقام لو أردنا سردها .
السؤال الآخر هو: ألا يعني هذا الكلام أنّه متى ما كان الإنسان فقيراً فلا ينبغي له السعي للتوسع في الرزق ،لأن الخالق جعل مصلحته في هذا الفقر ؟
وللجواب على هذا السؤال نقول: إنه قد تكون قلة الرزق بسبب كسل الإنسان وتهاونه أحياناً ،فهذا النقص والحرمان ليس ما يريده الله حتماً ،بل بسبب أعماله ،والإسلام يدعو الجميع إلى الجهد والجهاد والمثابرة وفقاً لتأكيده على أصل السعي وبذل الجهد الذي يشير إليه القرآن في آيات عديدة ،وسنة الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) والائمة الأطهار( عليهم السلام ) .
ولكن عندما يبذل الإنسان منتهى جهده ،ورغم ذلك تغلق الأبواب في وجهه ،عليه أن يعلم بأن هناك مصلحة معينة في هذا الأمر ،فلا يجزع ،ولا ييأس ،ولا ينطق بالكفر ،ويستمر في محاولاته ويستسلم لرضا الخالق أيضاً .
وتجدر الإشارة إلى هذه الملاحظة وهي أن كلمة ( عباده ) لا تتعارض أبداً مع الطغيان عند بسط الرزق ،لأن هذه العبارة تستخدم في الأفراد الصالحين والسيئين والمتوسطي الحال ،مثل: ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) .
/خ31