ويثير القرآن الحوار مع أهل الكتاب ،في أسلوبٍ مميّزٍ يريد من خلاله أن يقودهم إلى التأمل في دوافعهم الخفيّة ،بما يكشف لهم النوازع الذاتية المعقّدة من شخصيتهم ،ويعرّفهم أنَّهم ليسوا بمنأىً عن الفضيحة ،فمهما حاولوا الاختباء وراء بعض الأقنعة التي تخفي ملامحهم الحقيقيّة في ما ينوونه أو في ما يفعلونه ،فإنَّ الله يكشف ذلك كله لرسوله وللمؤمنين .وقد جاء الأسلوب بلهجةٍ هادئةٍ هي أقرب إلى لهجة العتاب ،في صيغة السؤال العميق:{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} لماذا كل هذه الحرب ؟ولماذا كل هذا التآمر ؟وماذا فعلنا لكم حتّى نستحق كل هذا الضغط والكراهية ،ولماذا تنقمون منّا ؟ماذا نريد ،إلى أيّ شيء ندعو ،هل تنقمون منّا إلاَّ أنَّنا سرنا في خط الهدى المستقيم ؟!إنَّنا آمنا بالله وبرسالاته وكتبه الّتي أنزلت إلينا وإلى من قبلنا ،وإنَّكم انحرفتم عنه إلى السير في خط الأنانية الذاتية والفئوية ،والعمل على تحطيم كل الأشياء المقدسة التي تحول بينكم وبين الوصول إلى مطامعكم ومطامحكم في مركز الرئاسة .وربَّما كان الأسلوب بمثابة الإشارة إلى أنَّ الموقف الَّذي اتخذه أهل الكتاب لم يكن ناشئاً من خطة فكرية ،بل هو ناشىء من عقدةٍ ذاتية ،فهؤلاء المسلمون لا يعيشون الأفق الضيق في الإيمان ،ولا يدورون في محورٍ محدود ،بل تتسع آفاقهم لتشمل كل الرسالات وكل الرسل ،فلا يتركون مجالاً لحالةٍ عدائيةٍ في خط المجابهة ،لأنَّهم يحترمون ما يحترمه الآخرون ،بينما يسيء الآخرون إلى ما يحترمونه ،ما يفقد الآخرين حجّة اللجوء إلى الخصام والنزاع ،ويحوِّل موقفهم بالتالي إلى عقدةٍ مرضيّةٍ مستحكمةٍ ،ويظل الجوّ الَّذي أثاره الحوار يبحث عن جواب ،ولا جواب .