مناسبة النزول
جاء في الدر المنثور: أخرج الشيخ عن الحسن أنَّ رسول الله( ص ) قال: إنَّ الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً وعرفت أنَّ النَّاس مكذِّبيَّ ،فوعدني لأبلغن أو ليعذبني ،فأنزل{يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} ..قال: يا رب ،إنَّما أنا واحد كيف أصنع ليجتمع عليّ النَّاس ،فنزلت:{وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .
وفي الدّر المنثور عن ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: «سئل رسول الله( ص ) أي آية أنزلت من السماء أشدّ عليك ؟فقال: كنت بمنى أيام موسم ،اجتمع مشركو العرب وأفناء النّاس في الموسم ،فنزل عليَّ جبريل فقال:{يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} قال: فقمت عند العقبة ،فناديت: يا أيُّها النَّاس ،من ينصرني على أن أبلّغ رسالة ربي ولكم الجنَّة ؟أيُّها النَّاس ،قولوا: لا إله إلاَّ الله وأنا رسول الله إليكم وتنجوا ولكم الجنة .قال: فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلاَّ يرمون عليّ بالتراب والحجارة ،ويبصقون في وجهي ويقولون: كذاب صابىء ،فعرض عليّ عارض فقال: يا محمَّد ،إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك ،فقال النبيّ( ص ): اللهم اهد قومي فإنَّهم لا يعلمون ،وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك ،فجاء العباس عمّه فأنقذه منهم وطردهم عنه » .
وجاء في الدر المنثور في أكثر من رواية ،كان النبيّ( ص ) يحرسه أصحابه حتَّى نزلت هذه الآية:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} الآية ،فخرج إليهم وقال: أيها الناس ،انصرفوا فقد عصمني الله » .
وقد لخص الرازي في تفسيره الكبير ،أهم أقوال المفسرين في أسباب نزول الآية موضوع البحث ،ومجملها يدور حول قضايا جزئية لا أهمية لها في مدلولها وفي نتائجها ،وهي:
الأول: أنها نزلت في قصة الرجم والقصاص على ما تقدّم في قصة اليهود .
الثاني: نزلت في عيب اليهود واستهزائهم بالدين ،والنبيّ سكت عنهم ،فنزلت هذه الآية .
الثالث: لما نزلت آية التخيير ،وهو قوله تعالى:{يأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْواجك} [ الأحزاب:28] فلم يعرضها عليهن خوفاً من اختيارهنَّ الدنيا فنزلت .
الرابع: نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش ...
الخامس: نزلت في الجهاد ،فإنَّ المنافقين كانوا يكرهونه ،فكان يُمسك أحياناً عن حثِّهم على الجهاد ...
العاشر: نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب( ع ) ،ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه ،اللهمّ وال من والاه ،وعاد من عاداه ،فلقيه عمر بن الخطاب فقال: هنيئاً لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة » ،وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمَّد بن عليّ .
ويعلّق صاحب التفسير الكبير على هذه الرِّوايات بقوله: «واعلم أنَّ هذه الرِّوايات ،وإن كثرت ،إلا أنَّ الأولى حمله على أنَّه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى ،وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم ،وذلك لأنَّ ما قبل هذه الآية بكثير ،وما بعدها بكثير ،لما كان كلاماً مع اليهود والنصارى ،امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبيّة عمّا قبلها وما بعدها » .
وعن أبي سعيد الخدريفي ما أخرجه ابن مردويه وابن عساكرقال: «نزلت هذه الآية:{يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} يوم غدير خم في عليَّ بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) » .
وعن ابن مسعودفي ما أخرجه ابن مردويه ورواه السيّد الطّباطبائي في تفسيره: قال: «كنَّا نقرأ على عهد رسول الله( ص ) «يا أيُّها الرَّسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربِّك أنَّ عليّاً مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالتهُ والله يعصِمُكَ من النَّاسِ » .
وأخرج ابن أبي حاتم عن عنترة أنَّه قال لعليّ: «هل عندكم شيء لم يبده رسول الله للنَّاس ؟فقال: ألم تعلم أنَّ الله قال:{يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} » .
وأما نحن ،فلنا جملة ملاحظات على ما قيل ،نوجزها بالتالي:
بالنسبة للرِّواية الأولى ،فملاحظتنا أنَّها لا تتناسب مع وعي النبيّ( ص ) للرسالة ،وقناعته بها ،واستعداده للدعوة إليها ،لأنَّها تتضمن ضيقه ذرعاً ،وخوفه من تكذيب النَّاس له ،وتهديد الله له بالعذاب ،هذا مع ملاحظة أنَّ الآية توحي بأنَّه كان قد بلَّغ الرسالة ،وأنَّ الله قد أنزل عليه قضيّة تساوي الرسالة في أهميتها ،ويُمثِّل إهمالها إهمالاً للرسالة نفسها ،وهكذا الأمر في الرِّواية الثانية الّتي تُمثِّل حيرة النبيّ( ص ) أمام مسألة الدعوة ،وجهله بالطريقة الّتي يدعو بها النَّاس ليجتمعوا إليه ،في الوقت الَّذي نعرف فيه وعيه للواقع الَّذي عاش فيه ،وهو الَّذي عاش معه قبل الدعوة زهاء أربعين سنة ،مع ملاحظة أنَّ الآية لا تُمثِّل جواباً على التساؤل المذكور ،بل هي تتضمن أمراً بالتبليغ وتشديداً عليه وعصمة من النَّاس .
أما الرِّواية المتعلّقة بقوله:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} لا ندري كيف كانت هذه الآية أشدّ عليه وهي لم تتضمّن تهديداً بالعقاب ،بل تتضمّن عصمة له من النَّاس ،وكيف كانت النتائج السلبيّة برميه بالتراب والحجارة عصمةً له .ولا ينافي ذلك إنقاذ العبّاس له لأنَّه جاء بعد أن نال النبيّ( ص )على تقدير صحة الرِّوايةالجهد الكبير .
وهكذا نلاحظ على مسألة ترك الحراسة من قبل النبيّ( ص ) من جهة الوعد بالعصمة ،فإنَّ الظاهر أنَّ العصمة القوليّة مما يمكن أن يقوله النَّاس من كلام غير مسؤول في المسألة الّتي يبلغها مما توحي به من عناصر للاتهام وللإثارة في النَّاس .وبعبارة أخرى ،إنَّ القضيّة المطروحة ليست العصمة من الخطر الَّذي يُمكن أن يصيب حياته ،فقد كان النبيّ( ص ) يتحرّك في قلب الخطر في ساحات الحرب في حروبه المتعدّدة ،ولكنَّ القضيّة المطروحة هي عصمته من كلام النَّاس في الموضوع المعيّن .والله العالم .
وأمّا بالنسبة إلى ما ذهب إليه الرازي في تفسيره الكبير فلنا أن نناقشه ،بأنَّ أكثرها مما لا يتناسب مع جوّ الآية الَّذي يوحي بأنَّ هناك أمراً مهماً يتعلّق بسلامة الرسالة ،بحيث يعادل الامتناع عن تبليغه الامتناع عن تبليغ الرسالة من الأساس ،كما أنَّه يُثير نوعاً من الكلام في الجانب الذاتي لشخصيّة الرسول( ص ) .وقد نلاحظ على بعضها أنَّها كانت مما تحدث عنه القرآن في وقت سابق على نزول الآية كقضيّة الجهاد وقضيّة زيد وزينب بنت جحش ،وقضيّة الرجم والقصاص ،فلا مانع من أن يتحدث عنها بهذا الأسلوب الَّذي يوحي بأنَّ الموضوع مثار تردد وتوقف .أمَّا هيبته لقريش ولليهود والنصارى ،فهي من الأمور المنافية لشخصيّة الرسول( ص ) وموقفه الصلب في أداء الرسالة منذ عهد الدعوة حتى مرحلة الهجرة التي نزلت الآية في آخرها ،مع أن الآية توحي بأنَّ النبي( ص ) كان قد بلَّغ الكثير من الرسالة أو بلَّغ كل تفاصيلها كما تشير إليه كلمة{وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي فكأنَّك لم تُبلّغ الرسالة التي بلَّغتها ،لأنَّ النتيجة ستكون بهذه المثابة من حيث الخطورة ،وبهذا نرجح أن يكون الوجه الصحيح هو الوجه الأخير ،وهو أنَّها نزلت في فضل عليّ( ع ) ،لأنَّ قرب عليّ( ع ) من رسول الله( ص ) من ناحية النسب والمصاهرة يفتح المجال للكثير من أقاويل السوء التي تربط الموقف بالعاطفة في قضيّة الولاية ،مما يحتاج إلى الدفاع الإلهي الذي يتمثَّل في عصمة الله له عن ذلك كله ،ولأنَّ قضيّة الولاية تُمثل امتداد وجود القيادة المسؤولة الكفوءة في الإمام ،بالمستوى الذي يملك فيها التفوق والأفضليّة على غيره من صحابة رسول الله( ص ) ،لا سيما في الجانب المتصل بالوعي الفكري التشريعي للرسالة الإسلاميّة .
ومن الواضح ،أن مسألةً بهذه الأهمية ،يؤدي إهمالها إلى أن تبقى حركة الرسالة في مهب الرياح ،كما لاحظناه في اهتزاز المسيرة الإسلامية في كثير من جوانبها لعدم انطلاقها من قاعدة صلبة في طبيعتها وموضوعها .وعلى ضوء ذلك ،نفهم أنَّ المتعيّن هو تفسير كلمة ( المولى ) بالولاية في خط القيادة ،بقرينة قوله( ص ): «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم » ،فإنَّها ظاهرة في أنَّ قوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه » يعني من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه ،لأنَّه أراد أن يثبت له ما هو ثابت لنفسه مما أخذ اعترافهم به ،وهو كناية عن القيادة لا المحبة والنصرة ،كما يقول صاحب تفسير المنار .
هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،فإنَّ إعلان مودة عليّ ومحبة النَّاس له لا تحمل أي أساس للنقد وللكلام غير المسؤول من النَّاس ليكون ذلك سبباً في الحديث عن عصمة الله له منه ،لأن من الطبيعي أن يدعو الإنسان الناس إلى مودة أقرب النَّاس إليه وإلى نصرته ،لا سيّما إذا كان في مثل مستوى عليّ( ع ) الذي يعرفه كل المسلمين بالقرابة القريبة من رسول الله( ص ) نسباً ومصاهرة وتقوى وجهاداً ،مما لا يثير أيّة مشكلة في الواقع ولا يسمح لليهود أن يصطادوا في الماء العكر ،بينما تُمثِّل الولايةالإمامةالقيادة الكثير من الحديث السلبي ضد النبيّ محمَّد( ص ) الذي وعده الله بأن يعصمه منه .
أمَّا ما تحدّث عنه الفخر الرازي ،من قضيّة ضرورة الانسجام مع السياق ليجعلها واردةً في تأمين النبي( ص ) من مكر اليهود والنصارى ،فهذا ما لم نستطع إخضاع الآية له ،لأنَّ المسألة في موضوع عصمته من النَّاس لا تنطلق من الخط العام للرسالة في مفاهيمها وأحكامها الإجماليّة والتفصيليّة ،بل تنطلق من شيءٍ معينٍ خطيرٍ يريد الله من الرسول( ص ) أن يبلّغه .وإنَّنا لن نجد هناك أيّة ضرورةٍ لهذا الاتصال فيما بين الآيات ،لأنَّ من الممكن أن يكون تنظيم الآيات خاضعاً لارتباطها في الأجواء العامّة للفكرة التي قد تشتمل على جزئيات ومفردات متنوعة تلتقي بحركة الدعوة الإسلاميّة في خطوات الرسول( ص ) ومن معه ،في ما يواجههم من تحدياتٍ مختلفةٍ في المواقع وفي الأسلوب ،وقد يكفي في هذا الارتباط أنَّ هذا الموقف من الرّسول( ص ) قد يُثير الكثير من أقاويل اليهود في أجواء المدينة ،في اتهام النبيّ( ص ) بالعاطفة في مواجهته للأشياء وللأشخاص في ما يُمكن أن يتمثَّل في قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} .
وعلى ضوء ذلك ،فإنَّ الأقرب في أسباب النزول هو ما رواه أبو سعيد الخدري في نزولها في غدير خم في نصب عليّ( ع ) أميراً للمؤمنين ،لأنَّه هو الَّذي كان من الممكن أن يُثير الأقاويل من المنافقين ضدّ النبيّ( ص ) باختيار صهره وابن عمِّه محاباةً له ،الأمر الَّذي يحتاج إلى حمايةٍ إلهيّةٍ في الوجدان العام للنَّاس .
وهذا ما يستوحيه المتدبِّر في الآية ،لأنَّ الظاهر منها هو العصمة الرساليّة ،بمعنى إضعاف موقف القوى المضادّة الّتي تريد استغلال نقاط الضعف في المسألة المطروحة على مستوى إثارة الحساسيات الاجتماعية ،لا العصمة الجسديّة بإبعاده عن الاعتداء عليه جسديّاً بالجرح أو القتل ،لأنَّ السياق بعيدٌ عن ذلك ،هذا مع ملاحظة أنَّ السورة مدنيّةٌ ،فلا وجه لما ذكر في الرِّوايتين الأولى والثانية من نزولها عليه في بداية الدعوة .
الثبات في حمل الرسالة
وفي مطلق الأحوال ،فإنَّ في هذا النداء الإلهي للرسول( ص ) الكثير من اللهجة الحاسمة ،والكثير من الإيحاء بالامتداد في حمل الرّسالة والثبات في مواقعها ،لأنَّ قضيّة الرسالة ليست كلمةً تُقال بحذر ،وليست موقفاً يُتّخذ بحياء ،بل هي الكلمة القويّة الهادرة الّتي تنفذ إلى النفوس بقوّة ،وتواجه العقبات بالتحدي ،وتتحرك في ساحة الصراع بحيويّةٍ وثبات ،وهي الموقف الَّذي يجابه المواقف المضادة بطريقةٍ حاسمةٍ لا مجال فيها لسياسة اللف والدوران ،والمجاملات المائعة الخجولة ،ذلك لأنَّ الدور الرسالي يُمثِّل إرادة التغيير في المفاهيم والوسائل والأهداف ،وتفجير المشكلة من الداخل ،وتحويلها إلى حالة صراعٍ يُثير النزاعٍ والخلاف والاهتزاز وتجاذب المواقف ،من أجل أن تكون النتائج النهائيّة خاضعة لعمليّة غربلةٍ وتقييم وتفتيت للواقع الَّذي يُراد تغييره ،لئلا تبقى الرواسب الماضية عقبة نفسيّة أمام التغيير الداخلي الَّذي يفسح المجال لتغيير الواقع .
وهكذا أراد الله لرسوله أن يتجاوز كل المخاوف الّتي قد تعطل الحركة ،وتمنع المبادرة ،وتربك المسيرة{يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} ولا تلتفت إلى السلبيات الّتي قد يثيرها هذا الفريق أو ذاك ضد القضايا الّتي يريد الله أن تبلّغها للنَّاس ،ولا تتوقف أمام الكلمات اللامسؤولة الّتي قد يطلقها بعض الحاقدين والكافرين ليشوهوا الموقف ،وليثيروا الغبار من حولك ،ليمنعوا الرؤية الواضحة للأشياء ،{وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ويتصاعد النداء ،وتعنف اللهجة ،وتشتد الكلمة في أجواء الإيحاء ،ويتوقف المتأمل أمام هذه الفقرة ،ليتساءل: ماذا هناك ؟فقد نزلت هذه الآية ،بعد أن كاد الرّسول يَبْلُغ نهاية المطاف في تبليغ رسالته ،بكل الأساليب الحكيمة الرسالية الّتي كانت تعنف حيناً وتَرِقُّ أحياناً ،وعانى الكثير الكثير من الجَهْدِ والتَّعب والجهاد في سبيل ذلك ،في الحروب الّتي خاضها في مواجهة التحديات الكافرة ،وفي حملات العداء الّتي تحمَّلها بصبر ومسؤوليّة ،وفي الكلمات القاسية الشاتمة الشامتة الّتي سمعها من المشركين فأعرض عنها استجابة لنداء الله ،فما القضيّة الجديدة الّتي يعتبر ترك تبليغها بمثابة الموقف الَّذي يلغي كل ذلك الجهد والتعب والمعاناة ،فكأنَّه لم يفعل شيئاً ،ولم يبلِّغ حكماً أو آية أو رسالة ؟
كيف نستوحي هذه الآية
ماذا نستوحي من أجواء هذه الآية الّتي تؤكد الإصرار على الالتزام بالتبليغ في قضايا الفكر والتشريع الإسلاميّة الصعبة ،المثيرة لعلامات الاستفهام ،حول الذات والطريق المتحركة بأكثر من قضيّة اتهام ،في الدوافع والغايات ؟!ولا تتوقف الآية عند ذلك ،بل تعمل على أن لا تترك مجالاً للتردد والخوف القلق ،بل تحسم الأمر كله بالكلمة الّتي تحمل ثقل المسؤوليّة ،لتوحي بأنَّ القضايا الصعبة في حركة الرسالة تساوي الرسالة ،لأنَّ قيمتها تتمثَّل بالموقف الَّذي يركز القاعدة في موقع التحديات ،ويفتح الآفاق على امتدادات الصراع .فإذا اهتز الموقف فإنَّ القاعدة تصبح في قبضة اهتزازات الرياح وهدير العواصف ،وإذا اختنقت الآفاق بنوازع الخوف والتردُّد ،فإنَّ الصراع سيفقد قوته وحيويته ،ويختنق بأجواء المأساة ،وتتصاعد الكلمة لتأخذ مجالها الروحي الإلهي ،بكل ما لمعنى الألوهيّة من قوّة وعظمة ،وبكل ما لكلمة النَّاس أمامها من ضعف وحقارة ،ليرتفع الإنسان من خلال ذلك إلى الرِّحاب الواسعة ،حيث الشعور بالروحيّة المنفتحة الممتدة في آفاق الله ،فيوحي له بالطمأنينة والسلام والأمان أمام كل التحديات من كل النَّاس ،فها هو الوعد الإلهي بالعصمة من النَّاس ،من كل ما يفكر فيه النَّاس ،ومن كل ما يخططون له ،أو يتحركون فيه .
ماذا يستوحي العاملون لله من ذلك كله ؟
إنَّ هناك أكثر من فكرةٍ إسلاميّةٍ يدور حولها الجدل في الساحة الفكرية في كل زمن كان للفكر فيه ساحة للصراع .
وإنَّ هناك أكثر من موقفٍ إسلاميٍ يختلف فيه النَّاس ،في سلبياته وإيجابياته ،في انسجامه مع المواقف الّتي يألفها النَّاس ،وفي ابتعاده عنها ،في مجالات تعدُّد المواقف واهتزازها ،وإنَّ هناك أكثر من جهة ،أو شخص ،ممن يتحركون في الساحة العامّة ،يُطلب منهم موقفٌ مؤيدٌ أو معارضٌ من خلال المواقف الّتي يقفونها ،مما يكلّف الكثير من التضحيات ،ويصنع الكثير من الصعوبات ،وقد لا يكون هناك مجالٌ للابتعاد عن الساحة ،أو الغياب عن الموقف ،أو الاختفاء وراء الكلمات الضبابيّة أو الأوضاع الرمادية ،فلا بُدَّ من الموقف الإيجابي للفكر وللموقف ،وهنا يأتي دور الحسم الإلهي بعدم التراجع ،وبحتميّة الإقدام والإبلاغ والوقفة الحاسمة ،ينطلق مع ذلك الوعد بالعصمة من كل عوامل الخوف من النَّاس المحيطة بالموقف .
إنَّ وحي هذه الآية يعطينا فكرة الموقف ،وهي أنَّ التقيّة قد تكون في القضايا الصغيرة المتعلّقة بالشخص وبتفصيلات التحرّك الخاضعة لإمكانات التغيير والتبديل من دون مساسٍ بجوهر القضيّة الأساسيّة ،أمَّا القضايا الكبيرة ،فلا مجال فيها للتقيّة ،لأنَّ ذلك يحجب وضوح الرؤية عن النَّاس ،ويؤدي بهم إلى الوقوع في قبضة الكفر والضياع ،وهذا مما لا تسمح به طبيعة الرسالة الّتي أنزلها الله لتخرج النَّاس من الظلمات إلى النور ،ولتنقذهم من الضلال لتفتح لهم أبواب الهدى ،فإنَّ ذلك قد يلغي دور الرسالة في الساحة ،وبالتالي وجودها .
إنَّ من وحي هذه الآية ،أنَّ الداعية إلى الله لا يتجمّد عند حسابات الأشياء في نطاق الظروف الموضوعيّة المحيطة به لتكون بمثابة القضاء والقدر اللذين لا يستطيع النَّاس تجاوزهما لما يُمثِّلانه من الحتميّة في حركة الحياة ،بل ينبغي له أن يتجاوزها بعض الشيء بروح المغامرة الإيمانيّة المرتكزة على الثقة بالله الَّذي قد يخلق له ظروفاً داخليّة في نفوس النَّاس ،وخارجيّة في حركة حياتهم ،فتوجه الأمر إلى اتجاه يختلف عن الاتجاه الَّذي تُمثِّله الظروف العادية .إنَّ الالتزام بالظروف المحيطة بالساحة وبالداعية ،بالدقّة الّتي يتصوّرها البعض ،قد يوقع الداعية إلى الله والعامل في سبيله ،في قبضة الاستسلام للأمر الواقع ،وفي تجميد روح الاندفاع والمغامرة في اتجاه الآفاق البعيدة الّتي تحمل في رحابها معاني الفتوحات ،وتلك هي قصة الإيمان بالله الّتي توحي للإنسان بمراعاة سنن الله المألوفة في الكون في ما تُمثِّله الظروف والأسباب المألوفة ،كما توحي له بانتظار الخفيّ من ألطافه في ما يعلمه من الأسباب والسنن الّتي لا يدركها الإنسان ،لأنَّها بعيدة عن موضع إدراكه الحسيّ والوجداني .