إقامة حكم الله أساس للرخاء الاجتماعي
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ} لقد جاءت الرسالات الإلهيّة من أجل إقامة العدل على الأرض بين النَّاس وإشاعة الرخاء والأمن والطمأنينة في الحياة من خلال ذلك ،لأنَّ العدل كلما امتد في الأرض ،كلما تساقطت الامتيازات المصطنعة والأنانيات المعقدة ،وتحولت الأوضاع من حالة تخلُّفٍ وضياعٍ إلى حالة تقدمٍ وانطلاقٍ وامتداد في رحاب الله .وهكذا كانت رسالة التوراة والإنجيل في مفاهيمهما العامّة الّتي لا تختلف مع حركة الرسالة الأخيرة ،وهي الإسلام ،وإن كانت تختلف معه في بعض التفاصيل ،فهي سبيل رخاء في ما تستهدفه من بناء الشخصيّة الإنسانيّة على أساس متين ،فلا مجال لأي انحراف أو اهتزاز وارتباك يحاول إفساد العلاقات ،وبالتالي ،إفساد الحياة العامة والخاصة للنَّاس .وعلى ضوء هذا ،جاءت الآية الّتي توحي إليهم بأنَّ كل هذه المشاكل التي يتخبطون فيها ،وما يلحق بهم من هزائم وفقر وقلق وارتباك وفساد ،كانت ناشئة من عدم ارتباطهم العملي بالتوراة والإنجيل ،وما أنزل إليهم من ربِّهم من الكتب الأخرى ،فلو أقاموها فيما بينهم{لآكلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} لأنَّهما سبيلان للخير والأمن والصلاح .وقد يثير بعض المفسرين في هذا المجال مسألة هذا التأكيد القرآني على التوراة والإنجيل ،ما يوحي بأنَّهما يُمثِّلان الحقيقة في صورتهما الحاليّة الموجودة عند اليهود والنصارى ،وهذا ما يتنافى مع إشارة القرآن إلى وجود بعض التحريف فيهما من بعض الجهات ،ولا يتوافق مع فكرة نسخ الشرائع الّتي يفرضها تعاقب الرسالات ؟!ولكنَّنا نجيب عن ذلك ،بأنَّ الآية تتحدث عن التوراة والإنجيل بما يُمثِّلانه من حقيقةٍ نازلةٍ من السماء على موسى وعيسى( ع ) ،وأمَّا قضيّة النسخ ،فإنَّها لا تتناول المفاهيم العامة الّتي تعتبر المبادىء الأساسية الّتي تنزلت بها الرسالات في ما ترتكز عليه قضيّة الإيمان والحياة ،بل تتناول التفاصيل والجزئيات الّتي تختلف حسب اختلاف الزمان والمكان ،وهذا ما يؤكده الإنجيل الَّذي جاء مُصدقاً لما بين يديه من التوراة ،وما يؤكده القرآن الَّذي جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل ،وهذا ما يوحيه الإيمان الإسلامي لأتباعه ،بالإيمان بما أنزل إلى محمَّد( ص ) وإلى النبيين( ع ) من قبله .
ليس كل اليهود والنصارى سواء
{مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} وهذا توضيحٌ من الله سبحانه وتعالى للحقيقة الواقعيّة الّتي كان عليها أمر اليهود ،فلم يكن هؤلاء بأجمعهم فاسقين ،ولكنَّ الأكثرية منهم كانت كذلك ،فهناك أمّةٌ مُقتصِدةٌ ،أي معتدلةٌ في أمور الدين والحياة ،لا تنحرف عن الخط ،بل تظل منسجمة مع الاستقامة في العقيدة والعمل ،ليأخذ كل واحد حقّه في الأحكام التقييمية السلبيّة والإيجابيّة .
وربَّما كان من الضروري لنا أن نستوحي من هذا التوضيح الإلهي الَّذي استهدف وضع الأمور في نصابها الصحيح ،وعدم إلحاق الأقل بالأعم الأغلب في الأحكام السلبية ،كيف نصدر أحكامنا في الأمور العامّة على الجماعات أو المواقف والأحداث ،فلا نستعمل التعميم في المجالات السلبية والإيجابيّة فنطلق الحكم بشكلٍ عام ،بل ينبغي لنا أن نعطي كل ذي حقٍّ حقَّه ،لئلا نظلم النَّاس حقوقهم في ما ننسبه إليهم مما لا دخل لهم فيه من قريب أو من بعيد .