( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ) قال ابن عباس وغيره:يعني القرآن . ( لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) أي:لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء ، على ما هي عليه ، من غير تحريف ولا تغيير ولا تبديل ، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ; فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتما لا محالة .
وقوله:( لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس:( لأكلوا من فوقهم ) يعني:لأرسل [ السماء] عليهم مدرارا ( ومن تحت أرجلهم ) يعني:يخرج من الأرض بركاتها .
وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والسدي كما قال [ تعالى] ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون] ) [ الأعراف:96] ، وقال:( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس [ ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون] ) [ الروم:41] .
وقال بعضهم:معناه ( لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) يعني:من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء .
وقال ابن جرير:قال بعضهم:معناه:لكانوا في الخير ، كما يقول القائل:"هو في الخير من قرنه إلى قدمه ". ثم رد هذا القول لمخالفة أقوال السلف
وقد ذكر ابن أبي حاتم عند قوله:( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ) حديث علقمة ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يوشك أن يرفع العلم ". فقال زياد بن لبيد:يا رسول الله ، وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا؟! قال ثكلتك أمك يا ابن لبيد ! إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله "ثم قرأ ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل )
هكذا أورده ابن أبي حاتم حديثا معلقا من أول إسناده ، مرسلا في آخره . وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلا موصولا فقال:
حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد عن زياد بن لبيد قال:ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال:"وذاك عند ذهاب العلم ". قال:قلنا:يا رسول الله ، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال:"ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء "
وكذا رواه ابن ماجه ، عن أبى بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع بإسناده نحوه وهذا إسناد صحيح .
وقوله:( منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) كقوله تعالى:( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [ الأعراف:159] ، وكقوله عن أتباع عيسى:( فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم [ وكثير منهم فاسقون] ) [ الحديد:27] . فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد ، وهو أوسط مقامات هذه الأمة ، وفوق ذلك رتبة السابقين كما في قوله تعالى:( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها ) الآية [ فاطر:32 ، 33] . والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة يدخلون الجنة .
وقد قال أبو بكر بن مردويه:حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا أحمد بن يونس الضبي ، حدثنا عاصم بن علي ، حدثنا أبو معشر ، عن يعقوب بن يزيد بن طلحة ، عن زيد بن أسلم ، عن أنس بن مالك قال:كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة ، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة ، وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة ، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار ، وتعلو أمتي على الفرقتين جميعا . واحدة في الجنة ، وثنتان وسبعون في النار ". قالوا:من هم يا رسول الله؟ قال:"الجماعات الجماعات ".
قال يعقوب بن يزيد كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تلا فيه قرآنا:( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ) إلى قوله تعالى:( منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) وتلا أيضا:( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [ الأعراف:181] يعني:أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه وبهذا السياق . وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة ، وقد ذكرناه في موضع آخر . ولله الحمد والمنة .