/م65
ثمّ تشير الآية الثّانية إلى الأثر العميق الذي يتركه الإِيمان والتقوىفي الحياة الدنيوية للإِنسان ،فتؤكّد أنّ أهل الكتاب لو طبقوا التّوراة والإِنجيل وجعلوهما منهاجاً لحياتهم وعملوا لكل ما نزل عليهم من ربّهم ،سواء في الكتب السماوية السابقة أو في القرآن ،دون تمييز أو تطرف لغمرتهم النعم الإِلهية من السماء والأرض ،فتقول الآية: ( ولو أنّهم أقاموا التّوراة والإِنجيل وما أنزل إِليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ...) .
وبديهي أنّ المراد من إقامة التّوراة والإِنجيل هو اتّباعهم لما بقي من التّوراة والإِنجيل الحقيقيين في أيديهم في ذلك العصر ،ولا يعني اتّباع ما حرّف منهما والذي يمكن معرفته من خلال القرائن .
والمراد بجملة ( ما أنزل إِليهم من ربّهم ) هو كل الكتب السماوية والأحكام الإِلهية ،لأنّ هذه الجملة يفهم منها الإِطلاق ،وهي في الحقيقة إِشارة إلى النهي عن خلط العصبيات القومية بالوسائل الدينية الإِلهية ،فليس المهم كون هذا الكتاب عربياً أو ذلك الكتاب يهودياً ،بل المهم هو الأحكام الإِلهية الواردة فيهما وفي كل الكتب السماوية ،أي أنّ القرآن أراد أن يطفئما أمكنه ذلكنار العصبية القومية عند هؤلاء ،ويمهد السبيل إلى التغلغل في أعماق نفوسهم وقلوبهم ،لذلك فالضمائر الواردة في هذه الآية تعود إلى أهل الكتاب وهي: ( إليهم ،من ربّهم ،من فوقهم ،ومن تحت أرجلهم ) وما ذلك إِلاّ لكي يترك هؤلاء عنادهم وصلفهم ،ولكي لا يتصوروا أنّ الخضوع والاستسلام أمام القرآن يعني استسلام اليهود للعرب ،بل هو استسلام وخضوع لربّهم العظيم .
ولا شك أنّ المراد بإقامة التّوراة والإِنجيل هو العمل بالمبادئ السماوية الواردة فيهما ،لأنّ جميع المبادئ والتعاليم كما أسلفنا سابقاًالتي جاء بها الأنبياء أينما كانواواحدة لا فرق بينها غير الفرق بين الكامل والأكمل ،ولا يتنافى هذا مع النسخ الذي ورد في بعض الأحكام الواردة في الشريعة اللاحقة لأحكام وردت في شريعة سابقة .
ومجمل القول هو أن الآية الأخيرة تؤكّد مرّة أُخرى هذا المبدأ الأساسي القائل بأن اتباع التعاليم السماوية التي جاء بها الأنبياء ،ليس لإِعمار الحياة الآخرة التي تأتي بعد الموت فحسب ،بل أنّ لهاأيضاًانعكاسات واسعة على الحياة الدنيوية المادية للإِنسان ،فهي تقوي الجماعات وتعزز صفوفها وتكثف طاقاتها ،وتغدق عليها النعيم وتضاعف إمكانياتها وتضمن لها الحياة السعيدة المقترنة بالأمن والاستقرار .
ولو ألقينا نظرة على الثروات الطائلة والطاقات البشرية الهائلة التي تهدر اليوم في عالم الإِنسان نتيجة للانحراف عن هذه التعاليم ،وفي صنع وتكديس أسلحة فتّاكة ،وفي صراعات لا مبرر لها ومساع هدامة لرأينا أن ذلك كله دليل حيّ على هذه الحقيقة ،حيث أنّ الثروات التي تستخدم لإِشاعة الدمار في هذا العالمإِذا أمعنا النظر جيداًإِن لم تكن أكثر حجماً من الثروات التي تنفق في سبيل البناء ،فهي ليست بأقلّ منها .
إنّ العقول المفكرة التي تسعى وتعمل جاهدةاليوملإِكمال وتوسيع انتاج الأسلحة الحربية ،ولتوسيع بقعة النزاعات الإِستعمارية ،إِنّما تشكل جزءاً مهماً من الطاقات البشرية الخلاقة التي طالما احتاجها المجتمع البشري لرفع احتياجاته ،وكم سيصبح وجه الدنيا جميلا وجذاباً لو كانت كل هذه الطاقات تستغل في سبيل الإِعمار ؟
وجدير بالإِنتباههنا أيضاًإلى أن عبارتي ( من فوقهم ) و( من تحت أرجلهم ) الواردتان في الآية الأخيرة ،معناهما أن نعم السماء والأرض ستغمر هؤلاء المؤمنين ،كما يحتمل أن تكونا كناية عن النعم بصورة عامّة كما ورد في الآثار الأدبية العربية وغيرها قولهم: ( إِنّ فلاناً غرق في النعمة من قمة رأسه حتى أخمص قدمه ) .
كما أنّ هذه الآية تعد جواباً على أحد أقوال اليهود الذي ورد ذكره في الآيات السابقة ،حيث تؤكّد أنّ سبب انقطاع نعم الله عنهم ،ليس هو ما زعموه من أن ذات الله المقدسة المنزهة قد شابها البخل ( والعياذ بالله ) أو أن يده أصبحت مغلولة ،بل لأنّ أعمالهم الخبيثة قد انعكست آثارها في حياتهم المادية والمعنوية فسودتهما ،فإن لم يتوبوا لن ينقذهم الله من آثار هذه الأعمال .
وفي الختام تشير الآية الكريمة إلى الأقلية الصالحة من أهل الكتاب الذين اختاروا طريق الاعتدال في حياتهم خلافاً لنهج الأغلبية المنحرفة ،فعزل الله حسابهم عن حساب هذه الأكثرية الضالة ،حيث تقول الآية: ( منهم أُمّة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يفعلون ) .
وقد وردت عبارات مشابهة عن الأقلية الصالحة من أهل الكتاب ،في الآيتين ( 159 و181 ) من سورة الأعراف ،والآية ( 75 ) من سورة آل عمران .