{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} إقامة التوراة والإنجيل:العمل بهما على أقوم الوجوه وأحسنها ، سواء فيه عمل النفس وهو الإيمان والإذعان ، وعمل القوى والجوارح .أي لو أقاموا ما في التوراة والإنجيل المنزلين من قبل بنور التوحيد والفضائل ، المبشرين بالنبي الذي يأتي من أبناء أخيهم إسماعيل كما قال موسى:والبارقليط روح الحق الذي يعلمهم كل شيء كما قال عيسى عليهم السلام وأقاموا بعد ذلك ما نزل إليهم من ربهم على لسان هذا النبي الذي بشرت به كتبهم وهو الفرقان الذي أكمل به الدين – لو أقاموا جميع ذلك ولم يفرقوا بين رسل الله وكتبه- لوسع الله عليهم بالتبع لذلك ما يهمهم من موارد الرزق ، فأكلوا من الثمرات والبركات التي تنتج من أمطار السماء ونبات الأرض ، وتمتعوا بما وعد الله به هذا النبي وأمته من سعة الملك .
وقيل إن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائهم من أمر الدين وآدابه والبشارة بالنبي الأخير صلى الله عليه وآله وسلم كزبور داود وحكم سليمان وكتب دنيال وأشيعا وغيرهما عليهم السلام ، وفي مجلدات المنار بيان لكثير من هذه البشارات .وإقامة هذه الكتب من أسباب الصلاح والإصلاح ، فلو أقامها قبل البعثة المحمدية أهل الكتاب ، لما غلب عليهم ما عزاه المؤرخون إليهم من الطغيان والفساد ، ولما عاندوا النبي المبشرة به ذلك العناد .ذلك بأنهم لم يقيموها ولا تدبروها ، وإنما كان الدين عندهم أماني يتمنونها ، وبدعا وتقاليد يتوارثونها .فهم بين غلو وتقصير ، وإفراط وتفريط .والمراد أن دهماءهم وسوادهم الأعظم كان كذلك كما يعلم من تواريخهم وتواريخ غيرهم .ومن دقة القرآن وعدله ، وتمحيص الحقيقة في ذلك بقوله:
{ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} أي منهم جماعة معتدلة في أمر الدين ، لا تغلو بالإفراط ولا تهمل بالتقصير .قيل هم العدول في دينهم ، وقيل هم الذين أسلموا منهم .والمعتدلون لا تخلو منهم أمة .ولكنهم يكثرون في طور صح الأمة وارتقائها ، ويقلون في طور فسادها وانحطاطها – وهل تهلك الأمم إلا بكثرة الذين يعملون السوء من الأشرار ، وقلة الذين يعملون الصالحات من الأخيار ؟ - وهؤلاء المعتدلون في الأمم هم الذين يسبقون إلى صلاح وإصلاح يقوم به المجددون من الأنبياء في عصورهم ، ولما جاء الإصلاح الإسلامي على لسان خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم قبله المقتصدون من أهل الكتاب ومن غيرهم ، فكانوا مع إخوانهم العرب من المجددين للتوحيد والفضائل والآداب ، والمحيين للعلوم والفنون والعمران ، فهل يعتبر المسلمون بذلك الآن ، ويعودون إلى إقامة القرآن ، وأخذ الحكمة من حيث يجدونها ، وعدد الإصلاح والسيادة من حيث يرونها ، أم يفتأون يسلكون بدينهم مع عدم إقامة كتابه ، والتبجح بفضائل نبيهم على تركهم لسنته وآدابه ؟
روى ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:( يوشك أن يرفع العلم ) قلت:كيف وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا ؟ فقال:( ثكلتك أمك يا ابن نفير ) إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة ، أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى ؟ فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله ) ؟ ثم قرأ{ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل} الآية .وأخرج أحمد وابن ماجه من طريق ابن أبي الجعد عن زياد بن لبيد قال:ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئا فقال:( ذلك عند ذهاب العلم ) قلنا يا رسول الله:وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ قال:( ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة ، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل و ينتفعون مما فيهما بشيء ) اه من الدر المنثور .
والشاهد فيه أن العبرة بالعمل بما في الكتب الإلهية والاهتداء بهدايتها .وقد كان أهل الكتاب في ذلك العصر أبعد ما كانوا عن هداية دينهم مع شدة عصبيتهم الجنسية له ، كما هو شأن المسلمين اليوم ، على أن عصبيتهم الجنسية له قد ضعفت أيضا واستبدل كثير منهم جنسية اللغة أو الوطن .
ولا يمنعنا من الاعتبار بهذا الحديث ما علل به من الضعف وانقطاع السند والقلب والاختلاف ، لأننا لا نريد أن نثبت به حقيقة ولا حكما شرعيا لا دليل عليهما سواه .وهو لا يدل على سلامة التوراة والإنجيل من التحريف بالزيادة والنقصان ، لأنهما على ثبوت ذلك يشملان على التوحيد والهداية إلى البر والتقوى ، ولكن أهلهما لا يقيمون ذلك ، فالحجة عليهما قائمة على حال .وقد عملت أن هذا الحديث تثبت به العبرة ، ولكن لا تقوم به حجة .وقد أشار الحافظ في ترجمة زياد بن لبيد من الإصابة إلى مخرجيه وعلله عندهم ، ومنه يعلم قصور ما اكتفى به السيوطي في الدر المنثور .
تنبيه:إن الشهادة لبعض أهل الكتاب بالقصد والاعتدال في هذه الآية له نظائر في آيات أخرى كقوله تعالى:{ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [ الأعراف:159] وقوله:{ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} [ آل عمران:75] – الآية – وغير ذلك .ولو أن هذا القرآن وحي من الله لما وجدت فيه مثل هذه الشهادة ، لأن الإنسان مهما كان عادلا فاضلا لا يرى الفضيلة المستترة في خصومه الذين يناوئونه ويحاربونه فيشهد لهم بها ، بل أكثر الناس يعمي عن محاسن عدوه الظاهرة المستفيضة ، وإن رأى شيئا منها يظن أنه نفاق وخداع ، قال شاعرنا الحكيم:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** كما أن عين السخط تبدي المساويا
من شواهد العبرة على هذه الحقيقة كلمة قالتها امرأة كبيرة العقل والعلم والسن من فضليات النساء في سويسرة لشيخنا الأستاذ الإمام ؛ قالت له ( إنني لم أكن قبل معرفتك أظن أن القداسة توجد في غير المسيحيين ) فإذا كانت هذه المرأة الواسعة العلم بأخلاق البشر التي لها عدة مؤلفات في علوم التربية تظن مثل هذا الظن في هذا العصر الذي عرف البشر فيه من أحوال البعداء عنهم وتاريخهم ما لم يعرف مثله سلفهم في عصر ما ، فهل يظن أن رجلا أميا في الحجاز يهتدي بغير وحي من الله إلى تلك الحقيقة في أولئك القوم منذ ثلاثة عشر قرنا ؟ ؟