مناسبة النزول
جاء في تفسير القرطبي: «قال ابن عباس: جاء جماعة من اليهود إلى النبيّ( ص ) فقالوا: ألست تُقر أن التَّوراة حق من عند الله ؟قال: بلى ،فقالوا: فإنَّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها ،فنزلت الآية ،أي لستُم على شيء من الدين حتَّى تعلموا بما في الكتابين من الإيمان بمحمَّد( ص ) والعمل بما يوحيه ذلك منهما » .
المعنى الحقيقي للانتماء إلى الكتب السماوية
ماذا يُمثِّل الانتماء إلى الكتاب ؟هل هو مجرّد نسبة يحملها الإنسان من تاريخ آبائه وأجداده لتُمثِّل نَسَباً تاريخياً كما هي الأنساب التاريخيّة المتّصلة بالأشخاص والصفات ،من دون أن تحمل معها شيئاً من مضمون التاريخ في معطياته وأفكاره ؟أو هي شيء يتّصل بالمضمون في عطائه الحاضر في الفكر والموقف ،حيث يكون الكتاب هو الَّذي يطبع الشخصيّة بطابعه ،فيُعطي الفكرة من فكره ،ويحدِّد المواقف من خلال خطوطه العمليّة ،وبذلك يكون الانتماء في المضمون لا في الشكل ؟!!
إنَّ الآية تطرح القضيّة على الأساس الثاني للتساؤل ،فهي لا تكتفي بنفي الانتماء الحقيقي للكتاب بالأسلوب المألوف ،بل تنفي ارتكازهم على أي شيء بالنحو المطلق ،إلاَّ بإقامة التَّوراة والإنجيل والقرآن ،والَّذي عبّرت عنه الآية ،{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيء حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} لأنَّ ذلك هو الَّذي يُمثِّل القاعدة الصلبة في قضيّة الوجود أمام الله ،وبذلك يُمكن استيحاء الموقف الَّذي يُمارسه النَّاس في إطلاق الصفة على أساس الانتماء التاريخي ،ما يجعل من اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام ،صفات تمسُّ الإطار القومي ،الَّذي يُحَوِّل هذه الجماعات إلى قومياتٍ دينيّةٍ متنوعة ،بدلاً من الإطار الفكري الَّذي يُحوِّلها إلى مجتمعاتٍ فكريةٍ مختلفة ،ما يؤدّي إلى تجميد حركة الفكر في داخل عملية الصراع الفكري في الخط الديني ،وتحويله إلى حركة تختزن الأحقاد التاريخيّة ،وتتحدَّث عن الامتيازات الحاضرة ،وتواجه الموقف بذهنيّة الأمور الثوابت في قضايا العقيدة ،لا بذهنيّة الأمور القابلة للحوار .لهذا كان من الضرورات العمليّة للعاملين أن يحطموا هذا السور الصخري من الحواجز الّتي توحي بكسر الجليد المتجمّع في القلوب ،إذا استطعنا أن نكسر الجليد القابع في أعماق الفكر .
وقد نجد أمامنا بعض السلبيات الأخرى لهذه الذهنيّة الّتي تقف في قضيّة الانتماء على حدود الانتساب التاريخي بعيداً عن مضمون الحاضر ،فنلتقي بالملحدين الَّذين يحملون فكر الإلحاد كخطٍ للحياة ،ولا يؤمنون بالكتاب في جميع مفاهيمه وتشريعاته ،ولكنَّهم يحملون صفة المسيحيّة واليهوديّة أو الإسلام من الزاوية القوميّة لمجتمع الكتاب ،لا من الناحية الفكريّة والروحيّة والعمليّة ،ما يؤدي إلى تدخل هؤلاء في حركة المجتمعات في مختلف جوانب الحياة ،من موقع أنَّهم جزء منها في صفة الانتماء ،وقد يؤدي ذلك إلى قيامهم بكثيرٍ من ألوان العبث بالقيم والمفاهيم والمصالح الحقيقيّة للدين وأهله ،انطلاقاً مما يؤمنون به من قضايا الكفر والضلال ،ويخططون له من إفساد الفكر الديني ومواقفه .
الحقد والحسد في أساس الجمود والكفر
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} .إنَّ هذه الفقرة من الآية تُثير الانطباع عن بعض الفئات المعقّدة الموجودة في أهل الكتاب ،كجزء من الجماعات المنتمية إلى فكر أو جهة ،في موقفها من الجماعات المنتمية إلى فكرٍ آخر أو جهة أخرى .فقد نجد في هذه الفئات الكثير من ألوان التعقيد في مواجهتها للآيات المنزلة على رسول الله( ص ) وعلى المؤمنين معه ،فهم لا يواجهونها مواجهة الفكر الناقد الَّذي يتأمل ويفكر وينقد ويُثير علامات الاستفهام في ما التبس عليه أمره ،أو ما اتضح له فساده ،والذي ينسجم مع الإيجابيات في ما ثبت له صحته ،بل يواجهونها مواجهة العقدة الّتي ترفض أن تفكر ،وترفض أن تؤمن ،وتتعامل مع الجوانب المشرقة البارزة فيها ،أو البراهين الواضحة لديها ،تَعامُلَ الحاقد الَّذي يبادر إلى الجحود والكفران ،ويعمل على الظهور بمظهر التكبُّر والطغيان ،كمن يستعرض عضلاته أمام الآخرين ليوحي بالقوّة ،في موقف استعراضي يُثير الشكل من أجل أن يعطي الانطباع الخاطىء باتفاقه مع المضمون ،وذلك للإيحاء بأنَّهم فوق مستوى هذه الآيات في ما يملكونه من فكر ومعرفة ،فلا مجال للتوقف عندها لإثارة الفكر والتأمُّل ،تماماً كما هو الفكر الرفيع الدرجات عندما يتطلّع من فوق إلى الفكر الَّذي يعيش في الحضيض ،فلا يُكلِّف نفسه الالتفات إليه بالنظرة الخاطفة ،بل يواجهه بالتأمُّل العميق الهادىء ،ولكنَّهم يعلمون من أنفسهم أنَّ الأمر ليس كذلك ،وأنّ وحي الله هو فوق كل وحي ،وأنَّ الفكر الَّذي ينطلق منه هو فوق كل فكر من موقع الحجَّة والبرهان .وفي ضوء هذا التفسير ،يتبيّن أنَّ نسبة زيادة الطغيان والكفر منهم إلى الآيات ،ليست بلحاظ ما تحمله هذه الآيات من عوامل ذلك ،بل بلحاظ ما تُثيره من ردود فعلٍ داخليةٍ في نفوس هؤلاء من موقع العقدة المستحكمة في داخل ذواتهم .
لا تحزن على الكافرين
{فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ولماذا تحمل في نفسك هذا الشعور العميق من الأسى ما دمت قد أقمت الحجَّة عليهم من الله ،وأعطيتهم كل مشاعر العطف والحنان بالكلمة والأسلوب والجوّ والعلاقة ،وأفسحت لهم المجال للتراجع عمّا هم عليه من ضلال ،وصبرت على كل نوازع الذاتية المعقّدة ،وتحملت كل ألوان الاضطهاد الروحي والعملي بما كانوا يثيرونه حولك من شبهات وشكوك ،وما يقفونه من مواقف سلبية ؟ولكنَّهم استمروا في خط التمرُّد والطغيان ،فلم يستجيبوا للحوار الَّذي دعوتهم إليه ،ولم يتجاوبوا مع دعوة التفكير والتأمُّل الّتي وجهتها إليهم ،فهم ليسوا من الفئات الّتي تبعث الألم في النفس عندما تنحرف عن الخط ،بل هم من الفئات الّتي توحي بعدم المبالاة ،وبالإهمال لكلِّ ما يتعلَّق بهم ،لأنَّهم واجهوا الرسالة بذلك الموقف نفسه{فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .