فيقف الإنسان مع التزامه الداخلي بين يدي الله بصفته الإيمانيّة الّتي تُمثِّل الإيمان بالغيب ،والخشية بالغيب ،والإحساس العميق بحركة الغيب في وجدانه الخفي ،كما أراد الله للبلد الحرام أن يكون منطقة سلامٍ للحيوان وللإنسان ،فلا يعرض لهما أحد بسوء من موقع حرمة البيت والإنسان فيه .وقد ذكر في التفاسير أنَّ هناك أكثر من روايةٍ صحيحةٍ ،تؤكد أنَّ الوحوش والطير كانت تنتقل قريباً من المسلمين في حالة عمرة الحديبية فلا يعرضون لها بسوء ،التزاماً منهم بحرمة إحرامهم ،وبعظمة البلد الحرام والبيت الحرام ،واستمر هذا التشريع في حياة المسلمين ،فلا مجال بعد ذلك للاعتداء في هذا النطاق ،فقد حرّمه الله تحت طائلة العذاب الأليم في الآخرة ،والخسارة في الدنيا ،في ما تُمثِّله الكفَّارة من عقوبةٍ رادعةٍ في مستوى الجانب المالي من حياة الإنسان .وقد فصّلها الله في هذه الآيات ،على سبيل التخيير بين أن يقدم مثل ما قتله من الأنعام هدياً يهدى به بالغ الكعبة لينحر بها ،أو يذبح في الحرم بمكة ،أو بمنى{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} ليحدّداه تحديداً دقيقاً ،{هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً} في نطاق التشريع .
ولكنَّ هذه الأحاديث معارضة بأحاديث أخرى تتحدث عن تكرر الكفَّارة حسب تكرر القتل ،وهو الأشبه بما جرت عليه طريقة الشرع في تكرار الجزاء عند تكرار الجريمة ،والأمر في ذلك موكول إلى أبحاث الفقه ،وجاءت خاتمة الآية:{لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} لتُثير في نفوس المؤمنين الشعور العميق بالهول العظيم من انتقام الله من المتمرّدين ،وذلك من أجل أن يذوق عاقبة أمره فيرتدع عن التعدي على حدود الله ،وذلك هو التشريع الجديد الَّذي يُحاسب النَّاس على أساسه في ما يستقبلونه من التعدي على حرمات الحرم ،أو الإحرام .أمَّا الأفعال المماثلة الّتي مارسها النَّاس فيها قبل هذا التشريع ،فليس لله على النَّاس فيها شيء ،إذ لم يسبق فيها تحريم من الله ليؤاخذهم به .وليس للتشريع في الإسلام مفعولٌ رجعيٌّ ،لأنَّ الله لا يُعاقب النَّاس في الدنيا والآخرة إلاَّ في ما أقام عليه الحجَّة بالأمر والنهي .
والظاهر أنَّ التعبير بكلمة العفو في قوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف} لا يُراد بها العفو عن الذنب ،بل يُراد بها عدم العقوبة ،وربَّما كانت مناسبة التعبير مرتكزةً على أساس ما في هذا الفعل من مفسدة وحزازة لما يوحي به من عدم احترام حرمة الحرم ،ما يجعله شبيهاً بالذنب في طبيعته ،وإن لم يكن ذنباً في حقيقته ،وأمَّا كلمة{وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} فيبدو أنَّها تأكيد لحكم وجوب الكفَّارة باعتبارها لوناً من ألوان الانتقام العملي في الدنيا ،بالإضافة إلى عذاب الله ،وذلك من أجل المقابلة بين حالة العفو وحالة الانتقام في تلخيصٍ سريعٍ للموضوع .ولكنَّ هناك بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت( ع ) ،تعتبر الكفَّارة جزاءً في قتل الصيد للمرة الأولى ،وترى أنَّ المرة الثانية لا تستتبع كفَّارة ،بل الانتقام من الله الَّذي يوحي بجزاءٍ صعبٍ كبيرٍ من خلال الإضمار الَّذي يحمله التعبير من جهة أخرى ،ولعلَّ استيحاء كلمة{وَمَنْ عَادَ} يُعطي هذا المعنى ،لأنَّ الظاهر منها التكرار في أعلى حدوده من خلال الاستغراق في التفكير بهاتين الصفتين من صفاته{وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} لأنَّها توحي بأنَّ قوته لا تقف عند حد ،فإنَّه لا يُمكن لأيّة قوّةٍ أن تنتقص منها بشيء ،لأنَّها فوق كل شيء ،وبذلك تكون صورة الانتقام قريبة من صورة العزّة .