/م94
{ يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} هذا بيان لما يجب على المحرم المعتدي في الصيد من الجزاء والكفارة في الدنيا ، سبق في أول السورة تحريم الصيد على من كان محرما بحج أو عمرة ومن كان في أرض الحرم ، وقد أعاده هنا ليرتب عليه جزاءه .وتقدم هنالك أن الحرم بضمتين جمع حرام وهو المحرم بحج أو عمرة وإن كان في الحل .
{ ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} أي ومن قتل شيئا من الصيد وهو محرم قاصدا لقتله فجزاؤه – أو فعليه جزاء – من الأنعام مماثل لما قتله في هيئته وصورته إن وجد ، وإلا ففي قيمته ، وقيل في قيمته مطلقا .وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك .قرأ عاصم وحمزة والكسائي «فجزاء » بالرفع والتنوين ، و «مثل » بالرفع والإضافة لما بعده وهو ظاهر .وقرأ الباقون بإضافة جزاء إلى مثل ، وهو مخرج على أن مثل الشيء عينه على حد{ ليس كمثله شيء} [ الشورى:11] أو هو من قبيل خاتم فضة أي من فضة ، وأن المعنى فعليه جزاء الذي قتله أي جزاء عنه .وقال الزمخشري:أصله «فجزاء مثل ما قتل » بنصب مثل بمعنى فعليه أن يجزي مثل ما قتل من النعم ، ثم أضيف كما تقول:عجبت من ضرب زيدا ، ثم من ضرب زيد اه .
قتل المحرم بحج أو عمرة للصيد حرام بالإجماع لنص الآية .ولكن أكل المحرم مما صاده من ليس بمحرم مختلف فيه فقيل يحرم مطلقا عملا بظاهر الآية الآتية وحديث الصعب بن جثامة عند أحمد ومسلم وغيرهما .وقيل يجوز مطلقا لما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أكلوا مما أهدي إليهم من لحم الحمار الوحشي .والجمهور على جواز الأكل مما يصيده غير المحرم لنفسه ويهدي منه للمحرم ، وهو التحقيق الذي يجمع به بين الروايات كما يدل عليه حديث أبي قتادة في الصحيحين وغيرهما وهو الذي صاد الحمار الوحشي وأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية وقد اختلفوا في الصيد الذي نهت الآية عن قتله فقال الشافعي:هو كل حيوان وحشي يؤكل لحمه ، فلا جزاء في قتل الأهلي وما يؤكل لحمه من السباع والحشرات ، وهي كثيرة في مذهبه ، ومنها الفواسق الخمس التي ورد الإذن في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما بقتلها في الحل والحرم – وهي الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور{[844]} .وأخرجاه أيضا من طريق مالك وأيوب عن نافع عن ابن عمر .
قال أيوب:قلت لنافع فالحية ؟ قال الحية لا شك فيها ولا يختلف في قتلها .وألحق مالك وأحمد وغيرهما بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد لأنها أشد ضررا منه .وقال زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة:الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلها .وذهب أبو حنيفة إلى وجوب الجزاء في قتل كل حيوان إلا الفواسق الخمس وجعل الذئب منها لأنه كلب بري .والمراد بالغراب الأبقع الضار لا الأسحم الذي يؤكل فإنه صيد .والحاصل أن الحيوانات الضارة التي تقتل اتقاء ضررها ، لا جزاء على المحرم إذا قتلها ، أطلق ذلك بعضهم ، قال الحافظ ابن كثير وقال مالك رحمه الله:لا يقتل الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه ، وقال مجاهد بن جبر وطائفة:لا يقتله بل يرميه ، وروي مثله عن علي كرم الله وجهه .وقد روى هشيم:حدثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما يقتل المحرم فقال:«الحية والعقرب والفويسقة ( أي الفأرة ) – ويرمي الغراب ولا يقتله – والكلب العقور والحدأة »{[845]} رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل والترمذي عن أحمد بن منيع كلاهما عن هشيم ثم ذكر أن الترمذي حسنه .
واختلفوا في اشتراط التعمد لوجوب الجزاء فذهب أكثرهم إلى أنه لا يشترط التعمد .وقالوا إن الكتاب دل على جزاء المتعمد وسكت عن جزاء المخطئ ولكن السنة مضت بأن عليه الجزاء أيضا .قاله الزهري .
والجمهور على أن المتعمد هو القاصد لقتله مع ذكره لإحرامه وعلمه بحرمة قتل ما يقتله .ومنهم من يشترط نسيان الإحرام .ولم نر للجمهور حديثا مرفوعا يدل على تغريم المخطئ ولا رواية صحيحة صريحة في كون ذلك كان من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، إلا ما رواه الحكم عن عمر أنه كتب بذلك .وروى الشافعي وابن المنذر عن عمرو بن دينار قال:رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطإ ، وما قاله الزهري أصرح منه .ولكن لا يعد مثل هذا دليلا شرعيا .ولذلك احتج الشافعي بالقياس على قتل الخطإ لا الروايات .ويشبه أن يكون قول عمرو بن دينار حكاية للإجماع ، ولكن لا يصح فالخلاف في المسألة مروي عن ابن عباس وطاوس وسعيد ابن جبير – كلهم صرحوا باشتراط العمد .وعبارة طاوس:لا يحكم على من أصاب صيدا خطأ إنما يحكم على من أصابه عمدا ، والله ما قال الله إلا «ومن قتله منكم متعمدا » وروي عن ابن عباس ومجاهد وابن سيرين اشتراط التعمد للقتل مع نسيان الإحرام .والروايات في الخلاف مفصلة في الدر المنثور وغيره واشتراط العمد مذهب داود الظاهري ، وقد شرح الرازي استدلاله بالآية شرحا يؤذن باختياره له .
وروي عن سعيد بن جبير ما يصح أن يكون بيانا لسبب الخلاف لولا إجمال فيه ، وذلك قوله:إنما كانت الكفارة فيمن قتل الصيد متعمدا ، ولكن غلظ عليهم في الخطإ كي يتقوا اه .ولم يبين من أين جاء التغليظ ، فإن صحت الرواية عن عمر أنه:كتب أن يحكم عليه في الخطإ والعمد – جاز أن يكون هذا اجتهادا منه في أحوال خاصة لسد ذريعة صيد العمد في حال الإحرام ، كما فعل في إمضاء الطلاق الثلاث باللفظ الواحد لمنع الناس منه ، ثم تبعه الجهور في هذا وذاك من غير بحث في السبب الباعث له على ذلك ومراعاة المصلحة التي أرادها وعدم تعديها .ومن لم يتبعه في ذلك يقول إن اجتهاده ليس شرعا ولا دليلا من أدلة الشرع ، فكيف يؤخذ على علاته فيما كان كمسألتنا من المسائل المنصوصة في القرآن أو التي مضت فيها السنة قبله وفي صدر خلافته كمسألة الطلاق الثلاث ؟ هذا مع علمنا بأنه كان يخطئ فيراجع فيعترف بخطإه ويرجع عنه .
فإن إن قيل العلماء المجتهدين قد اتبعوه في ذلك لإقرار الصحابة إياه عليه وعدم معارضتهم له كعادتهم فيما يرونه خطأ – قلنا إنه لم يثبت أنه عرض مسألة تغريم من قتل الصيد خطأ على الصحابة وأقروه عليه .وإنما قال الحكم أنه كتب ، ولم يقل لمن كتب ، والظاهر – إن صح – أنه لبعض عماله ، ويحتمل أن يكون في واقعة حال اقتضت ذلك ، ونص كتابته لم يذكر في الرواية .والحكم الذي روى هذا الأثر هو ابن عتيبة الكندي الكوفي كما يظهر من إطلاق اسمه وهو على توثيق الجماعة له من المدلسين كما قال ابن حبان في الثقات .وقال فيه ابن مهدي:الحكم بن عتيبة ثقة ثبت ولكن يختلف معنى حديثه .ولم نقف على رجال السند إليه عند الذين رووا الأثر عنه – وهم ابن أبي شيبة وابن جرير وابن حاتم كما في الدر المنثور – لنعرف درجة روايتهم .وجملة القول أن هذا الأثر ليس بحجة ، وسيأتي ما صح من حكم عمر .
بعد كتابة ما تقدم راجعت تفسير شيخ المفسرين ابن جرير الطبري فإذا به قد أورد في رواياته قول من قالوا إن المراد من التعمد في الآية هو العمد لقتل الصيد مع نسيان قاتله لإحرامه حال قتله إياه ، وقول من قالوا إنه العمد لقتله مع ذكر قاتله لإحرامه – ولكنه ذكر في هذه الروايات قول من قالوا بالجزاء في العمد بالكتاب وفي الخطإ بالسنة أو لسد الذريعة وحفظ حرمات الله أي بالقياس – ثم قال:
«والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال:إن الله تعالى حرم قتل صيد البر على كل محرم في حال إحرامه ما دام حراما بقوله:{ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} ثم بين حكم من قتل من ذلك في حال إحرامه متعمدا لقتله – ولم يخصص المتعمد قتله في حال نسيانه إحرامه ولا المخطئ في قتله في حال ذكره إحرامه ، بل عم في إيجاب الجزاء على كل قاتل صيد في حال إحرامه متعمدا ، وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نص كتاب ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إجماع عن الأمة ، ولا دلالة من بعض هذه الوجوه – فإذا كان كذلك فسواء كان قاتل الصيد من المحرمين عامدا قتله ذاكرا لإحرامه أو عامدا قتله ناسيا لإحرامه ، أو قاصدا غيره فقتله ذاكرا لإحرامه ، في أن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى وهو{ مثل ما قتل من النعم} الخ » .
أقول هذا هو الاستدلال الصحيح البين ولكن لا يظهر دخول القسم الأخير من التفصيل فيه ، وهو قوله:«أو قاصدا غيره فقتله ذاكرا لإحرامه » لأن هذا من قتل الخطإ لا العمد إلا أن يريد صورة معينة وهي أن يقصد قتل صيد فيصيب صيدا غيره وهو ذاكر لإحرامه ،إذ يصدق عليه حينئذ أنه قصد قتل الصيد بإطلاق وأنه منتهك لحرمة الإحرام .ولعل هذا هو المراد ، ويقرب منه ما إذا قصد رميه لجرحه لا لقتله .وأما إذا رمى غرضا لا حيوانا أو حيوانا يباح قتله كالكلب العقور فأصاب سهمه أو رصاصه صيدا لم يكن يراه مثلا – فلا جزاء عليه في هذا بمقتضى الدليل الذي قرره ، وسيأتي أن عمر قال في مثله أنه أشرك فيه العمد بالخطإ .
ثم قال ابن جرير:وأما ما يلزم بالخطإ قاتله فقد بينا القول فيه في كتابنا ( كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع ) بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع ، وليس هذا الموضع موضع ذكره ، لأن قصدنا في هذا الكتاب الإبانة عن تأويل التنزيل ، وليس في التنزيل للخطإ ذكر فنذكر أحكامه اه .
واختلفوا في المثل المراد من الآية فذهب الجمهور إلى اعتبار مثل المقتول في خلقه كصورته وفعله ، وذهب إبراهيم النخعي إلى اعتبار القيمة وتبعه أبو حنيفة وأبو يوسف .والأول مؤيد بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم علماء الصحابة .روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان والحاكم عن جابر قال:جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشا وجعله من الصيد{[846]} .أي لأنه يؤكل لحمه كما ثبت في غير هذا الحديث أيضا .وقد روي مرفوعا وموقوفا .وذكر الترمذي أنه سأل البخاري عن هذا الحديث فصححه .ورواه الدارقطني عن الأجلح بن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«في الضبع إذا أصابه المحرم كبش وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة » قال والجفرة التي قد ارتعت .والأجلح هذا قال أبو حاتم لا يحتج بحديثه ووثقه يحيى بن معين وقال ابن عدي صدوق .وقال الحافظ في تقريب التهذيب:صدوق شيعي من السابعة .فاعتمد توثيقه .وقال الشوكاني في نيل الأوطار:وحديث جابر أخرجه البيهقي وأبو يعلى وقالا:عن عمر رفعه .وأما الدارقطني فرواه من طريق إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر يرفعه وكذلك الحاكم ، ورواه الشافعي عن مالك عن أبي الزبير موقوفا على جابر وصحح وقفه الدارقطني من هذا الوجه .وقال السيوطي في الدر المنثور:وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسن وتؤكل » .
أقول والحديث يدل على اعتبار السن في المماثلة فالعنز بالتحريك أنثى المعز كالنعجة من الضأن ، والعناق ( بالفتح ) الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها السنة – والجفرة بفتح الجيم الأنثى من ولد الضأن التي بلغت أربعة أشهر .
{ يحكم به ذوا عدل منكم} أي يحكم بالجزاء من النعم ، وكونه مثل المقتول من الصيد ، رجلان من أهل العدالة والمعرفة منكم أيها المؤمنون .ووجه الحاجة إلى حكم العدلين أن المماثلة بين النعم – وهي الإبل والبقر والغنم بأنواعها - وبين الصيد الوحشي – وأنواعه كثيرة – مما يخفى على أكثر الناس .قال ابن جرير:ووجه حكم العدلين إذا أرادا أن يحكما بمثل المقتول من الصيد من النعم على القاتل أن ينظرا إلى المقتول أو يستوصفاه فإن ذكر أنه أصاب ظبيا صغيرا حكما عليه من ولد الضأن بنظير ذلك الذي قتله في السن والجسم ، فإن كان الذي أصاب من ذلك كبيرا حكما عليه من الضأن بكبير- وإن كان الذي أصاب حمار وحش حكما عليه ببقرة ، إن كان الذي أصاب كبيرا فكبيرا من البقر وإن كان صغيرا فصغيرا ، وإن كان المقتول ذكرا فمثله من ذكور البقر ، وإن كان أنثى فمثله من البقر أنثى .ثم أورد من الشواهد على ذلك ما حكم به عمر وعبد الرحمن بن عوف على اللذين قتلا الظبي وقد رواها من عدة طرق ولا يبعد أن تكون القصة متعددة ، وقد حكما بشاة وسيأتي .
وأما ما لا مثل له من النعم بوجه من وجوه الشبه فيحكم العدلان فيه بالقيمة .قال الحافظ ابن كثير:وأما قوله:«فجزاء مثل ما قتل من النعم » حكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأ:«فجزاؤه مثل ما قتل من النعم »{[847]} وفي قوله:«فجزاء مثل ما قتل من النعم » على كل من القرائتين دليل لما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد والجمهور من وجوب الجزاء في مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي خلافا لأبي حنيفة رحمه الله حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثليا أو غير مثلي .قال وهو مخير إن شاء تصدق بقيمته وإن شاء اشترى به هديا .والذي حكم به الصحابة في المثلى أولى بالإتباع ، فإنهم حكموا في النعامة ببدنة وفي بقرة الوحش ببقرة وفي الغزال بعنز .وذكر قضايا الصحابة وأسانيدها مقرر في كتاب الأحكام .وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه يحمل إلى مكة .رواه البيهقي .
ثم قال وقوله تعالى:«يحكم به ذوا عدل منكم » يعني أنه يحكم بالجزاء بالمثل أو بالقيمة في غير المثلى عدلان من المسلمين .واختلف العلماء في القاتل هل يجوز أن يكون أحد الحكمين عل قولين:أحدهما:لا ، لأنه قد يتوهم في حكمه على نفسه وهذا مذهب مالك ، والثاني:نعم ، لعموم الآية وهو مذهب الشافعي وأحمد .واحتج الأولون بأن الحاكم لا يكون محكوما عليه في صورة واحدة .قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا جعفر هو ابن برقان عن ميمون بن مهران أن أعرابيا أتى أبا بكر فقال:قتلت صيدا وأنا محرم فما ترى علي من الجزاء ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبي بن كعب وهو جالس عنده:ما ترى فيما قال الأعرابي ؟ فقال الأعرابي أتيتك وأنت خليفة رسول الله أسألك وأنت تسأل غيرك ؟ فقال أبو بكر وما تنكر ؟ يقول الله تعالى:{ فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم} فشاورت صاحبي إذا اتفقنا على أمر أمرناك به .وهذا إسناد جيد لكنه منقطع بين ميمون والصديق .ومثله يحتمل ههنا .
فبين له الصديق الحكم برفق وتؤدة لما رآه أعرابيا جاهلا وإنما دواء الجهل التعليم .فأما إذا كان المعترض منسوبا إلى العلم فقد قال ابن جرير:حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا وكيع بن الجراح عن المسعودي عن عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر قال:خرجنا حجاجا فكنا إذا صلينا الغداة أقدنا رواحلنا فنتماشى نتحدث ، قال فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي أو برح ، فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ حشاه .فركب وودعه ميتا ، قال فعظمنا عليه ، فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقص عليه القصة ، قال إلى جنبه رجل كأن وجهه قلب فضة .يعني عبد الرحمن بن عوف .فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه ، قال ثم أقبل على الرجل فقال أعمدا قتلته أم خطأ ؟ فقال الرجل لقد تعمدت رميه وما أردت قتله ، فقال عمر:ما أراك إلا أشركت بين العمد والخطإ ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها وانتفع بإهابها .قال فقمنا من عنده فقلت لصاحبي أيها الرجل عظم شعائر الله فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه ، اعمد إلى ناقتك فانحرها فلعل ذلك ، يعني أن يجزئ عنك{[848]} قال قبيصة:ولا أذكر الآية من سورة المائدة «يحكم به ذوا عدل منكم » فبلغ عمر مقالتي فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة قال:فعلا صاحبي ضربا بالدرة{[849]} أقتلت في الحرم وسفهت في الحكم{[850]} قال ثم أقبل علي ، فقلت يا أمير المؤمنين:لا أحل اليوم شيئا يحرم عليك مني .فقال يا قبيصة بن جابر إني أراك شاب السن ، فسيح الصدر ، بين اللسان ، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الحسنة ، فإياك وعثرات الشباب .
ثم ذكر ابن كثير طرقا أخرى لأثر قبيصة .ثم نقل عن ابن جرير الطبري أن ابن جرير البجلي قال:أصبت ظبيا وأنا محرم فذكرت ذلك لعمر فقال ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك فأتيت عبد الرحمن وسعدا فحكما علي بتيس أعفر .ثم نقل عنه أيضا أن رجلا رمى ظبيا فقتله وهو محرم فأتى عمر ليحكم عليه فقال له عمر:احكم معي .فحكما فيه بجدي قد جمع الماء والشجر .ثم قال عمر ( يحكم به ذوا عدل منكم ) قال ابن كثير:وفي هذا دلالة على جواز أن يكون القاتل أحد الحكمين كما قاله الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى .
ثم قال:واختلوا هل تستأنف الحكومة في كل ما يصيبه المحرم فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل وإن كان قد حكم من قبله الصحابة ؟ يرجع فيه إلى عدلين ؟ وقال مالك وأبو حنيفة بل يجب الحكم في كل فرد فرد سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا .
وقد استدل الحنفية بتحكيم العدلين على كون المراد بالمثل القيمة قالوا لأن التقويم هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون المماثلة .والظاهر خلاف ذلك لأن قيم هذه الأشياء مما يعرفه كل الناس في الغالب ، وإنما يحتاج إلى الاجتهاد والنظر في دقائق المشابهة بين الحيوانات الوحشية على كثرتها واختلاف صورها وطباعها وبين الأنعام على قلتها وتقارب صفاتها .ومال الآلوسي إلى جعل كل من القولين محتاجا إلى هذا الاجتهاد من الحكمين ، جمعا بين مذهبه الأول ومذهبه الثاني ، إذ كان من فقهاء الشافعية ، ثم صار مفتي الحنفية .
أما قوله تعالى:{ هديا بالغ الكعبة} فمعناه أن ذلك الجزاء الواجب على قاتل الصيد يجب أن يكون هديا يصل إلى الكعبة ويذبح هنالك أي في جوارها حيث تؤدى المناسك ويفرق لحمه على مساكين الحرم .وقد تقدم في أول تفسير الآية الثانية من السورة أن الهدي لا يكون إلا من الأنعام فهو يؤيد ما ذهب إليه الجمهور من كون المماثلة في الجزاء إنما تعتبر في الصفات والهيئات .وكلمة ( هديا ) حال من ( جزاء ) بناء على أنه خبر ، أو من الضمير في قوله:{ يحكم به} أو منصوب على المصدر أي يهدي هديا .
{ أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما} قرأ نافع وابن عامر بإضافة «كفارة » إلى «طعام » أي كفارة طعام لا كفارة هدي ولا صيام ، والباقون بتنوين كفارة .أي فعلى من قتل الصيد وهو محرم معتمدا جزاء من النعم مماثل له أو كفارة طعام مساكين أو ما يعادل ذلك الطعام من الصيام .والعدل بالفتح المعادل للشيء المساوي له مما يدرك بالبصيرة والعقل كالعدل في الأحكام ، وبالكسر المعادل والمساوي مما يدرك بالحس كالغرارتين من الأحمال على جانبي البعير يسمى كل منهما عدلا ، هذا معنى ما قاله الراغب .وقال الزمخشري بعد ذكر القراءة الشاذة بالكسر:والفرق بينهما أن عدل الشيء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام ، وعدله ما عدل به المقدار ، ومنه عدلا الحمل لأن كلا منهما عدل بالآخر حتى اعتدل ، كأن المفتوح تسمية بالمصدر .والمكسور بمعنى المفعول به كالذبح ونحوه ، ونحوهما الحمل والحمل .وهذا القول هو المروي عن أئمة اللغة .
وهذه الأنواع الثلاثة هي التي ذكرت في فدية الحلق بقوله تعالى:{ فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [ البقرة:196] فالنسك هناك بعنى الهدي هنا ، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة بحلق رأسه لما آذته القمل وأن يطعم ستة مساكين أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام .فعلم بذلك أن صيام اليوم الواحد يعدل إطعام مسكينين .وإن إطعام ستة مساكين وصيام ثلاثة أيام يعدل ذبح شاة في النسك ، فإن قيل إن هذا مخالف لجعل صيام ثلاثة أيام معادلة لإطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين – قلنا إن الصيام في كفارة اليمين لم يجعل مساويا للإطعام بل تخفيفا على من لم يستطع الإطعام وإلا لخير بينهما .وقد علم من كفارة الظهار أن صيام شهرين أعظم من إطعام ستين مسكينا ، إذ فرض الإطعام ،على من لم يستطع الصيام ، وهي على الترتيب لا التخيير .وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه جعل كفارة المجامع في نهار رمضان ككفارة الظهار والمروي عن ابن عباس في تفسير الآية موافق لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة في المعادلة والتقدير ، ولكنه جعل الثلاثة هنا على الترتيب لا التخيير ، وكذلك قال مجاهد والسدي بالترتيب في الثلاثة ، وعن مجاهد رواية أخرى بأنها على التخيير وهو يرويها عن ابن عباس .وعلى هذا القول جمهور الفقهاء ومنهم أبو حنيفة وصاحباه ومالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنهما .
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال:إذا قتل المحرم شيئا من الصيد فعليه فيه الجزاء ، فإن قتل ظبيا ونحوه فعليه ذبح شاة تذبح بمكة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام .فإن قتل أيلا أو نحوه فعليه بقرة ، فإن لم يجدها صام عشرين يوما .وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه فعليه بدنة من الإبل ، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا{[851]} فإن لم يجد صام ثلاثين يوما .والطعام مد مد يشبعهم .وروى ابن جرير عن ابن عباس أيضا أنه قال:إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به ، وإن لم يجد جزاءه قوم الجزاء دراهم ثم قومت الدراهم حنطة ثم صام مكان كل صاع يوما .
ثم ذكر في رواية أخرى عنه أنه قال:فإن لم يجد جزاء قوم عليه الجزاء طعاما ثم صام لكل صاع يومين .والظاهر أن رواية صيام يوم عن كل صاع مبنية على القول بأن يطعم كل مسكين نصف صاع أي مدين وهو المروي عن تلميذه مجاهد – وأن رواية صيام يومين عن كل صاع مبنية على القول بأن يطعم كل مسكين مد واحد كما سبق في الرواية الأولى عنه .
واختار ابن جرير أن كل مسكين يطعم مدا .وعليه علماء الحجاز كمالك والشافعي .وأبو حنيفة وأصحابه يوجبون مدين لكل مسكين .وقال أحمد مد من حنطة ، ومدان من غيره .وقد أطال الشافعي في بيان التفرقة بين كفارة الصيد وفدية الأذى وتكلم في سائر الكفارات وأثبت بدقائق القياس التي لا يغوص عليها إلا مثله أن صيام يوم يعدل طعام مد .وقد عقد الربيع بابا خاصا لهذه المسألة في الأم كما أطال في جميع فروع هذه المسائل ، مقرونة بالشواهد والدلائل .
وذهب الجمهور إلى أن التقويم يكون في المكان الذي قتل فيه الصيد وقيل بل يقوم بمكة حيت تكون الكفارة وهو مروي عن الشعبي .وذهب الجمهور القائلون بالتخيير بين الثلاثة إلى أن المخير بينها هو قاتل الصيد .وقيل بل التخيير للحكمين ، وحكي هذا عن محمد بن الحسن .
واختلفوا في مكان الإطعام فقال بعضهم مكانه مكان الهدي أي مكة لأنه بدله وقال آخرون بل هو مخير فيه .
{ ليذوق وبال أمره} هذا تعليل لإيجاب الجزاء .وفسر الوبال بسوء العاقبة وهو من الوبل والوابل الذي هو المطر الثقيل .قال الراغب ولمراعاة الثقل قيل للأمر الذي يخاف ضرره وبال .ويقال طعام وبيل .والذوق مستعمل في الإدراك العام .غير خاص بإدراك اللسان ،وقد استعمله القرآن في إدراك آلم العذاب والوبل ولم يستعمله في إدراك الطعوم إلا في قوله تعالى:{ فلما ذاقا الشجرة} [ الأعراف:22] وفي قوله:{ لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا} [ النبأ:24 ، 25] وكل استعماله فيما يكره ويذم .ولا شك في أن الجزاء والعقوبة من أثقل الأشياء وأشقها على الناس سواء كانت مالية أو بدنية .
{ عفا الله عما سلف} أي لا يؤاخذكم الله تعالى بما سلف قبل التحريم أو قبل الجزاء ، وقيل عما سلف في الجاهلية لأن الإسلام يجب ما قبله ويطهر نفس صاحبه من الأدران السابقة فلا يبقي لها أثرا في النفس تترتب عليه مؤاخذة .
{ ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام ( 95 )} أي ومن عاد إلى قتل الصيد بعد تحريمه وإيجاب الجزاء والكفارة عليه – أو من عاد إلى قتله مرة ثانية بعد أن كفر عنه في المرة الأولى – فإن الله ينتقم منه في الآخرة ، لأن الجزاء في الدنيا لم يزعه ولم يزجره عن الإصرار على المخالفة .والله عزيز أي غالب على أمره فلا يغلبه العاصي ، ذو انتقام ممن أصر على الذنب .والانتقام المبالغة في العقوبة .وظاهر الآية أن الجزاء في الدنيا إنما يمنع العقاب في الآخرة إذا لم يتكرر الذنب فإذا تكرر استحق صاحبه الجزاء في الدنيا والعقاب في الآخرة ، وبهذا قال الجمهور .وروي عن سعيد بن جبير وعطاء أن الانتقام هنا هو الكفارة .وهو خلاف الظاهر .وروي عن ابن عباس أن من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم يحكم عليه فيه كلما قتله ، فإن قتل عمدا يحكم عليه مرة واحدة فإن عاد يقال له:ينتقم الله منك ، كما قال الله عز وجل .والمراد أنه لا تجتمع عليه عقوبتا الدنيا والآخرة ، وبهذا قال شريح ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي كما رواه ابن جرير .