وهذه لفتةٌ قرآنيةٌ إلى المنافقين في المدينة الذين كانوا يتحركون بين المؤمنين وبين اليهود في حركةٍ ازدواجيةٍ ،تنفتح على المؤمنين تحت عنوان الإيمان من دون عمقٍ في الفكر وفي الشعور ،وتلتقي مع اليهود تحت عنوان آخر من دون شموليةٍ في الموقف ،وبذلك كانوا يعيشون الاهتزاز الروحي والعملي على أكثر من صعيد .وما زال القرآن يقود المسلمين إلى وعي الفكرة والموقف ،في موقفهم من هؤلاء ،من خلال تعريفهم بملامحهم التي تعرفهم بحقيقتهم في صعيد الواقع .
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} وهم اليهود الذين تولاهم هؤلاء المسلمون ،فاندمجوا في مخططاتهم ،والتزموا بمواقفهم ،واعتبروا أنفسهم فريقاً لهم في كل قضايا السلم والحرب ،{مَّا هُم مِّنكُمْ}، لأنهم لم يعلنوا الإيمان ويمارسوه في الموقف ليندمجوا بالمجتمع المؤمن اندماجاً روحياً وعملياً ليكونوا جزءاً منه ،{وَلاَ مِنْهُمْ} لأنهم إذا كانوا يلتقون معهم بالموقف والمصلحة ،فإنهم لا يستطيعون أن يدخلوا في المجتمع اليهودي كجزءٍ منه ،لأنه مجتمعٌ مغلقٌ لا يسمح للآخرين من غير اليهود أن يدخلوا فيه وينفذوا إليه بطريقةٍ عضويةٍ ،انطلاقاً من العنصرية التي يختزنها أفراده في تفوق العنصر اليهودي على سائر البشر ،بل كل ما هناك أنهم يستغلون الثغرات الموجودة في كل مجتمعٍ ،لينفذوا إليه من خلالها ،وليعبثوا فيه ما أمكنهم العبث ،وليفسدوا فيه ما أمكنهم الإفساد .
وهكذا كان هؤلاء المنافقون مذبذبين في الموقف بين اليهود وبين المؤمنين ،ما يجعلهم يفقدون شخصيتهم الأصيلة ،في ما هو الانتماء الروحي والفكري على مستوى الاستقرار والثبات .
{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، وتلك هي سيرتهم عندما يشعرون بأن المؤمنين لا يمنحونهم الثقة ،أو يخيل إليهم ذلك من خلال القلق النفسي الذي يعيشون فيه على أساس الواقع النفاقي الذي يتمثل في داخلهم ،فيلجأون إلى الحلف الكاذب الذي يحاولون فيه تغطية أوضاعهم السرية المشبوهة ،وإخفاء مواقفهم السيئة.