كانت الصورة الوضيئة هي صورة المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين جاؤوا من بعدهم ،في ما تتميز به من الروح المخلصة المتحركة في خط الإيمان الصادق ،والتضحية الصادقة ،والموقف الثابت على الحق .
وهذه هي صورة المنافقين الذين تتجلى صورتهم القلقة المخادعة المظلمة في انتهازيتهم التي تتحرك في دائرة منافعهم الذاتية بعيداً عن علاقتهم بالآخرين في نطاق القرب والبعد ،فهم لا يخلصون للمؤمنين ولا للكافرين ،وإن كانت مصلحتهم تلتقي غالباً بالكافرين دون المؤمنين ،فإذا كانت مصلحتهم في سقوط الكافرين أسقطوهم .وهذا ما نلاحظه في الصورة النفاقية المتحركة في قصة بني النضير الذين تحالفوا مع المنافقين في المدينة ،ولكن المنافقين خذلوهم عندما خافوا على أنفسهم من سيطرة المسلمين ،ورأوا أن المطلوب منهم من قبل اليهود أن يدخلوا معهم في قتالٍ ضد المسلمين ،وهم لا يطيقون الدخول مع أحدٍ في مسألة القتال ،لأن سياستهم أن يكونوا من الجالسين على التل ،الذين يتربصون بالجميع الدوائر ،لتكون النتائج النهائية لحسابهم مع حسابات هذا الفريق أو ذاك أو ضد حسابات الجميع .
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ} في المدينة ممن أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ،{يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ} في ما هي الأخوّة المعقودة بينهم في الموقف ضد الإسلام والمسلمين ،من هؤلاء{الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} عندما طرح الموقف عليهم من قبل النبي( ص ) أن يخرجوا من ديارهم:{لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً} فإذا كنا قد أخفينا ملامحنا الحقيقية طيلة المدة السابقة للحفاظ على المصلحة المشتركة بيننا ،فسنقف الآن وقفةً واضحةً حاسمةً تؤكد المصير المشترك ،وتدعم موقفكم ،حتى يعرف المسلمون أنكم لستم وحدكم في ساحة الصراع ،وأننا سنذهب معكم ولن نسمع لأحدٍ من أهلنا أو من غيرهم إذا أرادوا أن ينصحونا بمفارقتكم وبالابتعاد عن هذه الوقفة الحاسمة المؤيّدة لكم ،لأنّ المسألة مسألة مبدأ وليست مسألة وضعٍ طارىء في مفردات المواقف ،ليكون هذا احتجاجاً صارخاً ضد الموقف الإسلامي الذي سوف يرتبك ويهتز أمام المشاكل الداخلية التي يثيرها خروجنا معكم ،باعتبار علاقاتنا العضوية بالمجتمع المسلم في المدينة ،في ما نملكه من علاقاتٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ ومواقع عشائرية ،الأمر الذي قد يدفع النبي( ص ) إلى التراجع عن موقفه هذا{وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} ونقاتل معكم ،حتى يكون الموقف في النهاية لمصلحتكم ،لأننا نملك القوة في مواقعنا الاجتماعية .
وهكذا استطاع المنافقون أن يثبّتوا الموقف اليهودي الذي كان يرى ضرورة المواجهة للنبي ،وعدم الخضوع لقرار الجلاء ،في مقابل الموقف اليهودي الآخر الذي يرى ضرورة الانسجام مع القرار ،لأن شروطه في البداية قد تكون أخفّ من شروطه في المرحلة الثانية ،ولأنهم لا يستطيعون الانتصار في المواجهة ما داموا وحدهم في القتال ،لأن اليهود الآخرين لم يكونوا معهم .
{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} لأن منطقهم ليس منطق الحقيقة المعبرة عن الموقف ،بل هو موقف النفاق المعبر عن الحالة النفسية المتعاطفة مع هذا الموقف ،في الوقت الذي تنتظر النتائج في مراقبةٍ دائمةٍ للمتغيرات على مستوى مراكز القوة ،حتى إذا رأت القوة في جانب المسلمين ،تركت كل عهودها مع اليهود لتنضم إلى المسلمين في ما تخافه من سطوتهم عليهم .
وبهذا كانوا كاذبين في العهد الذي قطعوه على أنفسهم لليهود ،لأنهم لم يكونوا جادّين فيه في حسابات المطلق ،في ما هو الموقف الحاسم الذي يتحرك في خط التضحية .