السؤال أسلوب قرآني في إثارة الفكر
ويتابع القرآن في هذه السورة الحديث عن قصة الإيمان بالله ،فيبدأ حديثه بإثارة حالة التأمّل الذاتي التي تدفع الإنسان إلى اكتشاف ما في داخل أعماقه من أفكارٍ وقناعاتٍ حول الإيمان ،ليستعيد بذلك جزءاً من نفسه ضاع بين الأجواء اللاهية ،والأوضاع المنحرفة ،والضجيج الذي يشغله عن حياته ،فيستسلم لما يوحيه إليه الآخرون من دون وعيٍ أو انتباهٍ ..وذلك بأسلوبٍ فريدٍ من نوعه ..مما كان القرآن يثيره في الداخل من أساليب متنوّعةٍ ،فيطرح سؤالاً ،ليثير في النفس تساؤلاً ،ويحرك التفكير في هذا الاتجاه أو ذاك لأن المشكلة عند كثير من الناس أنهم لا يفكرون ،لأنهم لا يتساءلون ،وإذا تساءلوا كان السؤال مجرّد صيحةٍ ضائعةٍ في النفس ،فلا يبحثون عن جوابٍ له من داخل الذات أو من خارجها ،لأنهم يواجهون كثيراً من القضايا مواجهة اللامبالاة .
إن الإنسان يبدأ دائماً بالتفكير من خلال إثارة علامات الاستفهام من حوله ،ولهذا نلاحظ أن الطفل يبدأ عملية التفكير عندما يبدأ في التطلع إلى الأشياء من حوله بنظرة استفهامٍ وتساؤلٍ ..فيبدأ بطرح الأسئلة حول هذا وذاك ،ما يوحي بأنه قد بدأ يفكر بجدّيةٍ ..وهذا ما أشار إليه القرآن في أكثر من مرة ،في التأكيد على أن المشكلة الأساس في قضية الكافرين ،هي أنهم يواجهون قضايا العقيدة بموقف اللامبالاة ،فلا يفكرون في تفاصيلها ليتخذوا موقف السلب والإيجاب على أساس ذلك .
وهكذا طرح القرآن في الآية الأولى السؤال:{قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَواتِ وَالأرْضِ} ؟وتولّى هو الجواب للإيحاء بأنه يمثل بديهة من بديهيات التفكير الذي يبعث السائل على أن يجيب دون أن ينتظر جواب المسؤول:{قُل للَّهِ} .ثم يفيض في الحديث عن الله من جديد من خلال ارتباط الإيمان به والالتزام بعبوديته وبقضية المصير ،ليجتمع إليه الفكر في نطاق الحقيقة الموضوعية ،بالفكر في نطاق علاقته بمصير الإنسان ،وهذا من أساليب القرآن في تربية الدوافع الفكرية لدى الإنسان .
فقد تكون بعض الأشياء من حقائق الحياة التي لا علاقة لها بالمصير الإنساني في حركة المسؤولية ،كما في المعادلات الرياضية التي تتصل بالحقائق الموضوعية لمواردها ،وقد تكون بعض الأشياء مرتبطةً بالحياة من جهةٍ وبالمصير من جهةٍ أخرى .ففي الحالة الأولى ،لا مشكلة كبيرة أمام الإنسان في قضية عدم الاعتراف بتلك الأشياء الفكرية المجرّدة ،لأنها لا تتصل بحركة الحياة إلا من خلال علاقتها بالمعرفة العامة ،أو ببعض جوانب الحياة المادية المحدودة ،أما في الحالة الثانية ،فإن القضية تتخذ أهميّة كبرى في شخصية الإنسان وفي علاقة الفكر بالمصير والحياة ،فتتحول السلبيّة فيها إلى عملية ابتعاد عن المنهج السليم الذي يقود الإنسان نحو السلامة العامة والخاصة ،كما هي الحال في قضية الإيمان لارتباطها بالنظرة العامة إلى الكون والحياة ،وبالقيادات المتحركة في الكون ،والدور الذي يمثله ارتباط الإنسان بها من قريب أو من بعيد ،الأمر الذي يجعل منها حقيقة عملية ،بالإضافة إلى ما تمثله من حقيقةٍ موضوعية .
والله سبحانه وتعالى ،من سنخ هذه الحقائق التي لا بد من أن يفكر فيها الإنسان من الجهتين ،أي بوصفها حقيقة موضوعية وحقيقة عملية تؤثر تأثيراً عميقاً على مصير الإنسان ،بل كان المصير الإنساني يتوقف عليها .من هنا ،فإن الله إذا كان حقيقةً موضوعيةً في الكونكما هو معنى الإيمانفإن ذلك يتدخل في طبيعة الفكر والسلوك والهدف ،بينما يختلف واقع الإنسان كله إذا ما انتفى ذاك الوجود ،وهكذا جاءت الآيات القرآنية التي عالجت موضوع الإيمان بالله لربط الفكر بالمصير ،وربط الإيمان بحركة الحياة بين يدي الله ،وذلك لإعطاء الفكر نوعاً من الحيوية والحركية بشكل مميز ..وهذا ما نستوحيه من هذه الآية التي دفعت الجواب إلى الواجهة لتثبت وجود الله موضوعياً لجهة ارتباط خلق الكون به باعتباره المبرّر لوجوده .
الرحمة الإلهية مصلحة للإنسان
وترق الصورة ،وتنساب بالحنان ليعيش معها الإنسان إحساساً بالجو الحميم الآمن المطمئن ،فقد{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ،لأن الخلق لم ينطلق من شعور ،بل من موقع الحكمة التي تحرك الوجود في اتجاه غايةٍ عظيمةٍ تفيض بالرحمة على الأشياء لتصل بها إلى غايتها ،ولذلك كانت الرحمة في حركة الوجود ،وفي حيويّة الحياة ،وما فيها من نعمٍ وألطافٍ ،وكانت أيضاً في تنظيم حياة الإنسان على أساس المسؤولية ليحميه من نفسه ويحمي غيره منه ..وبذلك كان البعث للحساب لوناً من ألوان الرحمة التي لا تعني العاطفة ،بل تعني مصلحة الإنسان في وجوده ،وذلك لجزاء المحسن على إحسانه ،والمسيء على إساءته ،ولذلك أتبع الرحمة التي كتبها على نفسه بقوله:{لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} ،فذلك يحقق للوجود غايته في مواجهة نتائج العمل في الدنيا ،وهو الذي يحقق للإيمان قوّته ،عندما يتحول إلى حركةٍ مستقيمة تربط النتائج بمقدماتها ،وتشير إلى النهاية من خلال انطلاقة البداية .
وهناك يقف الناس جميعاً يوم القيامة بين يدي الله ،ليواجهوا حساب المسؤولية بدقةٍ ،وليأملوا الحصول على رحمته الواسعة ،إلا فريقاً من هؤلاء الذي لا يتعلّقون برحمته بشيء ،وهم الذين لا يؤمنون به ولا يعترفون بتوحيده ،فهؤلاء{الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وأيّ خسارة أعظم من خسارة الإنسان نفسه ،وذلك بخسرانه الأساس الوحيد لخلاصه ،وهو رحمة ربّه المرتبطة بخط الإيمان في الحياة ؟!وهكذا يربط القرآن بين عدم الإيمان بالله وبين خسارة الإنسان نفسه ..وقد يفهم الإنسان منها أن القضية لا تعيش في النطاق الآخروي فقط ،بل تمتد إلى النطاق الدنيويّ لما يفرضه ذلك من ظلمةٍ في التصوّر والرؤية والعمل ،في مقابل ما يحصل عليه المؤمن من إشراق الروح في ذلك كله .