مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديفي قوله تعالى:{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قال الكلبي عن ابن عباس: إن كفار مكة أتوا رسول الله( ص ) فقالوا: يا محمد إنا علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعو إليه الحاجة ،فنحن نجعل لك نصيباً في أموالنا حتى تكون أغنانا رجلاً وترجع عما أنت عليه فنزلت هذه الآية .
ونلاحظ على ذلك أن سياق الآيةقبلها وبعدهالا يوحي بهذا الجو ،فإن الظاهر منها ورودها في مقام الاحتجاج على التوحيد في مقابل الشرك ،للتأكيد على عظمة الله في خلقه ومسؤولية الإنسان في عبادته وطاعته بعيداً عن الدوافع الذاتية للرسول في دعوته مما يتوهمونه من حاجاته أو مما ينطلق بهفي نفسهمن إخلاصه للرسالة ،الأمر الذي يوحي أن ذلك اجتهاد من ابن عباس في مناسبة الآية لما ذكره ،هذا بالإضافة إلى أن سورة الأنعام قد نزلت دفعة واحدة لا على سبيل التفريق بين الآيات ليكون لكل آية سبب مستقل للنزول .
وعلى أيّ حال ،فإن الروايةلو صحتأو كانت القضية في حديث المشركين مع النبي( ص ) في تفسيرهم لدعوته وحركته في مواجهة عقيدة الشرك ،فإن هذا يدل على أن هؤلاء القوم لا يفكرون بإمكانية انطلاق الإنسان الداعية من قاعدة الإيمان بما يدعو إليه ،والإخلاص لله في إقباله عليه ،بل يتصورون أن أية دعوة مضادة لعقائد الواقع الاجتماعي تمثل وسيلة من وسائل الحصول على نتائج مادية لحساب الذات عبر إثارة الاهتمام حولها ،أو الوصول إلى مواقع متقدمة للقوة ولتحصيل المكاسب المادية ،ولذلك كان عرضهم مادياً في مقابل تنازل النبي( ص ) عن الدعوة ،وهذا ما رفضه النبي محمد( ص ) في أكثر من مرّة معلناً لهم أن حركة رسالته تنطلق من إيمانه بالله وإخلاصه لدوره الرسالي في الدعوة في مواجهة كل حالات القهر والاضطهاد والتشويه والتهويل ،وهذا ما ينبغي للدعاة إلى الله أن يفهموه ويقتدوا به ويعيشوه في وعيهم للموقف والدور والتحدي الكبير .
ونستوحي من ذلك المنهج القرآني الاستقرائي الذي يوجّه الإنسان إلى متابعة الواقع في مظاهره السلبية من أجل الوصول إلى استنتاج صحيح في المسألة التاريخية الإنسانية في حساب المقدمات والنتائج ،ما يعني أن الإسلام يركز على الاستقراء الواقعي كوسيلة من وسائل المعرفة في كل القضايا التي يمكن للواقع الخارجي أن يكشف عنها ،وهذا ما يجعلنا نتبع ذلك في دراسة الظواهر المتحركة في المعرفة الاجتماعية والنفسية والتاريخية لنخرج بالقواعد الحاكمة للسلوك الإنساني كله ،فلا تبقى المعرفة أسيرة التأمّل العقلي المجرّد ،بل تتحرك في عملية التزاوج بين العقل والتجربة ،لأن ذلك هو الوسيلة الواقعية السليمة لحركة المعرفة لدى الإنسان .
وتقترب الصورة من حياة الإنسان لجهة ما يحيط به من موجودات{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الليْلِ وَالنَّهَارِ} فإذا بنا نلتقي بالليل والنهار كما لو كانا كونين للأحياء وللأشياء ،وما يهبط أو يصعد ،وما يغفو أو يستيقظ ،وما يتحرك أو يسكن ،وما يختزن الأفكار والمشاعر أو يبدعها ويحركها ويفجّرها ينابيع فكرٍ وعاطفةٍ وحياةٍ ،وما يسترخي استرخاء الجمود الصامت أمام كل عوامل الحركة والحياة ،فلا يحركه شيء من هذا أو ذاك ..ولكنها تلتقي جميعاً في خضوعها الإرادي والتكويني لله الذي يملكها ويملك منها ما لا تملكه من أنفسها ،ولذلك فهي تتعبّد له بوجودها إن لم تتعبّد له بإحساسها وتعبيرها ،فهو الذي خلقها وأودع فيها السنن الحكيمة المبدعة التي تحفظ لها سر وجودها ،{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الذي يسمع كل همساتها وتجاوبها ،ونبضات قلوبها ،وخفقات مشاعرها ،وخطرات وجدانها ،وحركات كيانها ،ويحيط بها بعلمه ،فلا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء .