( قل لمن ما في السموات والأرض قل لله ) أمر الله تعالى نبيه أن ينبههم إلى خلق السموات والأرض ومن فيهن ، والمجاوبة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيمن خلقهم ومن يملك من فيهن ومن له السلطان ، وقد نقلهم من أمر حسي ، يستطيعون أن يروه ، ويعتبروا به إلى أمر فكري هو ثمرة للتفكير في الإنسانية كلها ، والاستفهام يتضمن معنيين:أولهما التنبيه إلى أنه الله تعالى يملك السموات والأرض ومن فيهن من أقوياء وضعفاء ومن إنس وجن ، ومن ملائكة أطهار لا يعصون الله تعالى ويفعلون ما يؤمرون ومن أخيار في الأرض وأشرار فالجميع في قبضة يده سبحانه وتعالى ولا أحد فوق سلطانه ، والمعنى الثاني:تبكيتهم وبيان أنهم ومن هم أقوى منهم في قبضة يده سبحانه .
ونميل إلى أن الاستفهام للتنبيه ، فإنه من أمثل الطريق لتقرير الحقائق ، السؤال ثم الإجابة ولذلك كانت الإجابة بأمر الله تعالى نبيه أن يقول:( قل الله ) فكانت الإجابة تقريرا للحقيقة الثابتة التي يدركها العقل السليم وهي مما يوجبه الإيمان وتقرره الفطرة وبداهة العقول .
وقد ذكر عدله ثم ذكر رحمته من بعد ، وأشار إلى أن العدل والرحمة متلازمان فقال سبحانه:
( كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) .
ومعنى كتب الله تعالى على نفسه أنه أوجب تفضلا وتكرما من غير إلزام من أحد ألزمه الرحمة بعباده فهو الذي يمدهم بنعمه محسنهم ومسيئهم ، وخيرهم وشرهم وهو الذي يكلؤهم بالليل والنهار ، ولقد روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( لما قضي الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده ، فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي ){[1002]} ولهذه الرحمة لم يسارع بإنزال الهلاك على العصاة ممن بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم عسى أن يخرج من ذرية المشركين من يعبد الله سبحانه وتعالى ويخلص في إيمانه .
ومن مظاهر رحمته أن يعاقب المسيءويثيب المحسن ، فإن ذلك هو العدل وفيه رحمة ، فحيث كان العدل كانت الرحمة فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وهل تستوي الظلمات والنور ، وهل يستوي الأخيار والأشرار .
إن عقاب العاصي رحمة بالعموم ، وإن لم يكن رحمة بذات العاصي فهو لا يستحق الرحمة ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:( من لا يرحم لا يرحم ){[1003]} ولقد ذكر سبحانه أن من مقتضى رحمته أن يجمع الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه ، يجازي فيه ، المحسن بإحسان ويعاقب فيه المسيء فقال تعالت كلماته:( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) فهذه الجملة استئنافية لبيان نوع من العدل وهو أن يثاب المحسن ، ويعاقب المسيء ويحاسب كل على ما قدم من عمل في هذه الدنيا ، إذ هو رحمة بالخلق وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن القصاص فيه رحمة كبيرة فقال:تعالت كلماته:( ولكم في القصاص حياة . . .179 ) ( البقرة ) والقصاص بكل ضروبه فيه حياة ورحمة .
وهنا بعض إشارات بيانية:
الأولى:أن أكد جمع الناس يوم القيامة وذلك ب ( اللام ) الدالة قسم مطوى في القول ، وبنون التوكيد الثقيلة .
والثانية:تعدية الجمع ، ب ( إلى ) دون ( في ) للإشارة إلى أن الجمع نهايته تكون يوم القيامة فهم يحشرون في القبور والجمع مستمر في ذلك .
الثالثة:إثبات أن ذلك اليوم لا شك فيه عند أهل الدراية والمعرفة ومن يشك فيه فهو ليس ذا إدراك سليم ، وإذا كان بعض الناس يشك فيه ، فليس ذلك إلا من سقم الإدراك وفساد الفطرة وينبغي ألا يشك فيه مدرك فالبديهة تقول إن الله تعالى لم يخلق الكون عبثا ، ولم يخلق عبثا بل خلقه ليفنى ثم ليبقى من بعد ذلك ومن خلق في الابتداء قادر على الإعادة في الانتهاء وبين سبحانه بعد ذلك الحال الواقعة للذين يكفرون بالله وبالرسالة وباليوم الآخر وأن شرهم متكاثف يردف بعضه بعضا .
( الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ) .
عبر عن الكفار بالرسالة المحمدية والوحدانية واليوم الآخر بالذين خسروا أنفسهم وجعل الكفر نتيجة للخسران فالخسران يبتدئ والكفر نهايته ، أو هما متلازمان فالخسران سابق ولا حق لأنه يترتب على الكفر خسران متضافر .
والخسران الذي سبق الكفر ، وهو خسران الفطرة فلا يكفر بالدليل القاطع إلا من يخسر فطرته وخسران الإدراك السليم ، لأنه لا يكفر بوجود الله إلا من ينسى أن كل أثر له مؤثر ، وكل موجودموجد وخسروا عقولهم إذ سيطرت الأوهام عليهم فأشركوا مع الله أحجارا تحطم وأوثانا تصنع ونجوما تأفل ، وخسروا نفوسهم فصارت معوجة ، وخسروا قلوبهم فصارت مظلمة وإذا كانت كل مداركهم قد سدت فهم لا يؤمنون ، لأن الإيمان يحتاج إلى قلب مخلص وعقل مدرك وإذعان للحق إذ بدت معالمه ، وظهرت أماراته وإنهم بعد الكفر يزيدون خسرانا إذ كل انكارللحق خسران في ذاته لأنه نزول عن مرتبة الإنسانية السامية .
وقد قال تعالى:( فهم لا يؤمنون ) وعبر بالمضارع للإشارة إلى أنهم لا يكون الإيمان شأنا من شؤونهم ذلك لأن من امتلأت نفسه بالأوهام وصارت عشا لها ، وضلت عقولهم لا يمكن أن تذعن لشيء بل هي دائما مضطربة حائرة تنتقل من ضلال إلى ضلال ومن متاهة إلى مثلها ، كمن يضل في بيداء كلما أوغل زاد ضلالا ( ربنا لا تزغ قلوبنا إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة . . .8 ) ( آل عمران ) .