كتب على نفسه الرحمة: أوجب على نفسه إيجاب فضل وكرم .
في الآيات السابقة ذكرَ اللهُ تعالى أصول الدين الثلاثة: التوحيد ،والبعث ،والجزاء ،ورسالة محمد ،ثم ذكر شبهات الكافرين الجاحدين وبيّن ما يدحضها ،ثم أرشد إلى سننه تعالى في أقوام الرسل المكذّبين وعاقبتهم .وهنا يرد ذِكر هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر:أسلوب السؤال والجواب .
هذا الأسلوب في طريقين بارزين لا نكاد نجدهما بهذه الكثرة في غير هذه السورة .فهي تورد الأدلةَ المتعلقة بتوحيد الله ،وتفرُّدِه بالمُلك والقدرة في صورة الشأن المسلَّم بالتقرير الذي لا يقبل الإنكار أو الجدل{هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ الخ ...} هذا الأسلوب .
أما الأسلوب الثاني فهو أسلوب التلقين: تلقين الحجة والأمر بقذفها في وجه الخصم حتى تحيط به من جميع جوانبه فلا يستطيع التفلّت منها ،ولا يجد بُدّاً من الاستسلام لها .ففي حجج التوحيد والقدرة:
{قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل للَّهِ كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة}
{قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات والأرض ...الآية} .
{قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
{قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
{قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}
وفي حجج الوحي وبيان مهمة الرسول ،وأن الرسالة لا تنافي البشرية ،وفي إيمان الرسول بدعوته ،واعتماده على الله ،وعدم اكتراثه بهم ،أو انتظار الأجر منهم:
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً ؟قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} .
{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ولا أَعْلَمُ الغيب ،ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ،إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحَى إِلَيَّ} إلى آيات كثيرة .
وفي وعيدهم على التكذيب:
{قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} .
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون} .
{قُلْ يَا قَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار} .
{قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} .
وفي الرد عليهم في التحليل والتحريم من دون الله وتفنيدِ شبهتهم في الشرك وآثاره ،وفي بيان ما حرم خاصة في الطعام ،وعامة في نظام الله:
{قُلْ آالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين} .
{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً الآية ...} .
{قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ ؟} .
{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} .
هذان الأسلوبان قد تناوبا معظم ما تضمنته هذه السورة العظيمة ،والقرآن كله عظيم ..
ويدل الأسلوبان على أنهما صدرا في موقف واحد ،وفي مقصد واحد ،ولخصم واحد بَلَغ من الشدة والعتو مبلغاً استدعى من الله تزويد الرسول بعدةٍ قوية تتضافر في جملة شديدة يقذف بها في معسكر الأعداء ،فتزلزل عمده ،وتهد من بنيانه ،فيخضع بالتسليم للحق .
{قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض ؟} .
قل أيها الرسول ،لقومك الجاحدين لرسالتك ،المعرضين عن دعوتك: من هو مالك السماوات والأرض ومن فيهن ؟فإن أحجموا ولم يجيبوا ،فقل الجواب الذي لا جواب غيره: إن مالكها هو الله وحده لا شريك له .لقد أوجب على ذاته العلية الرحمة بخلقه ،فلا يعجل في عقوبتهم وإنما يقبل توبتهم .ومن مقتضى هذه الرحمة أن يجمعكم إلى يوم القيامة .
{الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ،والذين ضّيعوا أنفسَهم ،وعرَّضوها للعذاب في هذا اليوم هم الذين لا يؤمنوا بالله ،ولم يصدقوا رسوله ،ولا بيوم الحساب .