وتظلّ القضية قضيّة مواجهة هؤلاء المشركين في شركهم وفي تحريمهم ما لم يحرّمه الله في كتابه ،فيحدثنا الله عن منطقهم الذي يبرّرون به ما فعلوه ،ويتخذون منه أساساً للحصول على شرعيّة شركهم وتشريعهم ،فكل ما يحدث منهم هو بإرادة الله ومشيئته ،لأن الله إذا أراد شيئاً فإنه يقول له كن فيكون ،وإذا لم يشأ شيئاً فإنه لا يمكن أن يوجد ،لأن انتفاء مشيئته في الوجود ،تعني فعلية إرادته في العدم .وفي ضوء ذلك ،تتحرك حجتهم في منطقهم هذا .
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} وهم يبررون عملهم وطريقتهم{لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا} فالشرك هو مشيئة الله التي تدلّ على رضاه ،وهو دليل الحقيقة{وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} فالتحريم قد تمّ بإذن الله ،فلو لم يأذن به الله لمنعنا منه ،ولو منعنا منه لم نستطع إلى ذلك سبيلاً ،فيكون الأمر تماماً كما لو أوحى الله به إلينا أو إلى رسله ،لأن للوحي أسلوبين ،فهناك أسلوبٌ سلبيٌّ ،وهو عدم اعتراض الله على عباده في ما يقررونه ويشرّعونه وفي ما يتصرف به من شؤون العباد ،وأسلوبٌ إيجابي ،وهو إصدار الأحكام الخاصة ،بما ينزل من آيات ،وما يوحي به من شريعةٍ إلى رسله .
{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} فأرجعوا ذلك إلى مشيئة الله واتخذوه حجّة لهم أمام البسطاء والسذَّج من الناس ،وحاولوا أن يعطّلوا به منطق الرسالات في مواقف الحوار ،ومنطلقات الصراع ،ولكنّهم لم يرتكزوا في ذلك على أساسٍ ،لأنهم لو رجعوا إلى أنفسهم لم يجدوا قاعدةً ينطلقون منها باقتناعٍ وطمأنينة ،ولذلك عاقبهم الله عندما استمروا في خط التكذيب والإضلال{حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} وبأس الله عذاب .
{قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ} فإن منطقكم هذا لا يرتكز على حجة ،من برهانٍ أو دليل ،لأن هناك خلطاً عندكم في مشيئة الله وإرادته ،في ما أراده من تنظيم الكون والحياة ،على أساس ما تمثله حركة الوجود في عالم الخلق والتكوين ،وفي عمليّة الاستمرار في النمو العضويّ للأشياء على أساس القوانين الطبيعيّة التي أودعها في حركة الكون نحو التكامل في الوجود ،وقد كان من مشيئته أن يمارس الإنسان وجوده من خلال حريته في الاختيار ،ليواجه مصيره في الدنيا والآخرة من موقع الإرادة الحرّة المستمدة من العقل والوحي .وهكذا يتحرك الإنسان ،في ما يتحرك به ،من موقع مشيئة الله في النظام الذي يحكم حياته ،من ناحية قانون وجوده ،بعيداً عن كل التفاصيل التي تنطلق من إرادته ،لأن المشيئة قد انطلقت من الرضى في الإطار الذي تتحرك فيه الصورة ،وليس في الصورة نفسها ،وهناك مشيئةٌ لله ،في ما يحبه من بعض أفعال الإنسان ،وفي ما يكرهه من بعضها الآخر ،وهنا يأتي جانب الرضى والسخط ،وطبيعة المسؤوليّة في حركة الإرادة ،فالله لا يشاء للإنسان أن يكفر وأن يعصي ،بمعنى أن الله لا يرضى له بذلك ،والله يشاء للإنسان أن يؤمن ويطيع ،ولكنها المشيئة التي لا تتدخل في عملية الوجود من ناحية التكوين ،بل تقتصر على الجانب التشريعي منه .
أمّا ناحية التكوين ،فإن الله أراد أن تتشكل إرادة الإنسان من أسباب وجود الفعل ،ولكنه جعل بيد الإنسان حركة الإرادة ،فإذا أراد فعلاً فإن إرادته تابعةٌ لإرادة الله في التسبيب لوجود الفعل ،بالنظر إلى أنّ قانون السببيّة يفرض أن الإنسان إذا أراد شيئاً في ظروف معيّنةٍ وشروط محدودة ،فإن المراد يتبع الإرادة ،ولكن ليس معنى ذلك أنه يرضى بما حصل .وبهذا نفهم معنى أن عدم مشيئة الله للشرك وللتشريع ،لا تعني إجبارهم على ذلك ،لتكون حجتهم تامّة ،بل إنها تعني عدم رضاه به ،ولهم مطلق الحرية في ما يفعلون من موقع وجودهم ،ولله أن يكلفهم بالإيمان لأنهم يملكون أساس التكليف وهو العقل والقدرة والإرادة ،فلا مجال للاحتجاج بذلك على شرعية أفعالهم ،بل هي أوهام ليس إلاّ .
{إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} لأنهم لا يملكون علماً أو قناعةً يقينية{وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} وتسلكون سبيل الحدس والتخمين الذي لا يرتكز على أساس قطعي .{فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} في ما رزقكم الله من العقل والقدرة والإرادة التي تستطيعون من خلالها أن تختاروا الإيمان والطاعة ،وليس لكم على الله أيّة حجة في منطقكم هذا{فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} .