التّفسير
التملّص من المسؤولية بحجة «الجبر »:
عقيب الكلام المتقدم عن المشركين في الآيات السابقة ،أشار في هذه الآيات إِلى طائفة من استدلالاتهم الواهية ،مع ذكر الأجوبة عنها .
فيقول أوّلا: إِنّ المشركين سيقولون في معرض الإِجابة عن اعتراضاتك عليهم في مجال الإِشراك بالله ،وتحريم الأطعمة الحلال: إِنّ الله لو أراد أن لا نكونُ مشركين ،وأن لا يكون آباؤنا وثنيين ،وأن لا نحرّم ما حرّمنا لفعل: ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمّنا من شيء ) .
ويلاحَظ نظيرُ هذه العبارة في آيتين أُخرَيين من الكتاب العزيز ،في سورة النحل الآية 35: ( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه ) .وفي سورة الزخرف الآية ( 20 ): ( وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ) .
وهذه الآيات تفيد أن المشركينمثل كثير من العصاة الذين يريدون التملص من مسؤولية العصيان تحت ستار الجبركانوا يعتقدون بالجبر ،وكانوا يقولون: كلّ ما نفعله فإنّما هو بإِرادة الله ومشيئته وإلاّ لما صَدَرت منّا مثل هذه الأعمال .
وفي الحقيقة أرادوا تبرئة أنفسهم من جميع هذه المعاصي ،وإِلاّ فإِنَّ ضمير كل إِنسان عاقل يشهد بأن الإِنسان حرٌّ في أفعاله وغير مجبور ،ولهذا إِذا ظلمه أحدٌ انزعج منه ،وأخذه ووّبخه ،بل وعاقبه إِذا قدر .
وكل ردود الفعل هذه تفيد أنّه يرى المجرم حرّاً في عمله ومختار ،فهو ليس على استعداد لأنّ يغض الطرف عن ردود الفعل هذه بحجّة أنّ الظلم الواقع عليه من قبل ذلك الشخص مطابق لإِرادة الله ومشيئته ( تأمل بدقة ) .
نعم هناك احتمال في هذه الآية ،وهو أنّهم كانوا يدَّعون أنّ سكوت الله على عبادتهم للأصنام وتحريمهم لطائفة من الحيوانات دليل على رضاه ،لأنّه إِذا لم يكن راضياً بها وجب أن يمنعهم عنها بنحو من الأنحاء .
وكانوا يريدونبذكر عبارة ( ولا آباؤنا )أن يسبغوا على عقائدهم الفارغة لون القدم والدوام ،ويقولون: إِنّ هذه الأُمور ليست بجديدة ندعيها نحن بل كان ذلك دائماً .
ولكن القرآن تصدّى لجوابهم وناقشهم بشكل قاطع ،فهو يقول أوّلا: ليس هؤلاء وحدهم يفترون على الله مثل هذه الأكاذيب: ( كذلك كذب الذين من قبلهم ){[1317]} ولكنّهم ذاقوا جزاء افتراءاتهم: ( حتى ذاقوا بأسنا ) .
فهؤلاءفي الحقيقةكانوا يكذبون في كلامهم هذا ،كما أنّهم يكذّبون الأنبياء ،لأنّ الأنبياء الإِلهيين نهوا البشريةبصراحةعن الوثنية والشرك وتحريم ما أحلّه الله ،فلا آباؤهم سمعوا ذلك ولا هؤلاء ،مع ذلك كيف يمكن أن نعتبر الله راضياً بهذه الأعمال ؟...ولو كان سبحانه راضياً بهذه الأُمور فكيف بعث أنبياءه للدعوة إِلى التوحيد ؟!
إِنّ دعوة الأنبياءفي الأساسأقوى دليل على حرية الإِرادة الإِنسانية ،واختيار البشر .
ثمّ يقول سبحانه: قل لهم يا محمّد: هل لكم برهان قاطع ومسلّم على ما تدّعونه ؟هاتوه إِن كان ( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ) .
ثمّ يضيف في النهاية: إِنّكم ما تتبعونه ليس سوى أَوهام وخيالات فجة: ( إِن تتبعون إِلاّ الظن وان أنتم إِلاّ تخرصون ) .