/م148
وذلك قوله عز وجل:{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} أي سيقول هؤلاء المشركون لو شاء الله تعالى أن لا نشرك به من اتخذنا له من الأولياء والشفعاء من الملائكة والبشر وأن لا نعظم ما عظمنا من تماثيلهم وصورهم أو قبورهم وسائر ما يذكر بهم وأن لا يشرك آباؤنا من قبلنا كذلك لما أشركوا ولا أشركنا ولو شاء أن لا نحرم شيئا مما حرمنا من الحرث والأنعام وغيرها لما حرمنا .أي ولكنه شاء أن نشرك هؤلاء الأولياء والشفعاء به وهم له يقربوننا إليه زلفى ، وشاء أن نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب وغيرها فحرمناها ، فإتياننا ما ذكر دليل على مشيئة الله تعالى له ، بل على رضاه وأمره به أيضا كما حكى عنهم في آية أخرى بقوله:{ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها .قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} ( الأعراف 28 ) .
وقيل أرادوا أن مشيئته ملزمة ومجبرة فهم غير مختارين في ذلك .ولما وقع هذا القول منهم بالفعل حكاه تعالى عنهم بقوله في سورة النحل:{ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} ( النحل 35 ) وفي معناه قوله تعالى:{ وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم .ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} ( الزخرف 20 ) .
وقد رد تعالى شبهتهم هنا بقوله:{ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} إلخ أي مثل هذا التكذيب من مشركي مكة للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من إبطال الشرك وإثبات توحيد الله في الألوهية والربوبية ، ومنها حق التشريع والتحليل والتحريم قد كذب الذين من قبلهم لرسلهم .أي مثله في كونه تكذيبا جهليا غير مبني على أساس من العلم .والرسل ولا سيما خاتمهم عليهم الصلاة والسلام قد أقاموا الحجج العلمية والعقلية على التوحيد وغيره ، وأيدهم الله تعالى بالآيات البينات ، ولكن المكذبين لم ينظروا في هذه الآيات نظر الإنصاف لاستبانة الحق بل أعرضوا عنها وأصروا على جحودهم وعنادهم حتى ذاقوا بأسه تعالى وهو عذاب الاستئصال للمعاندين الذين اقترحوا على رسلهم آيات معينة فجعلها الرسل نذيرا لهم بالاستئصال فتماروا بالنذر ، وما دونه لغيرهم .ولو كانت مشيئة الله لما كانوا عليه من الشرك والمعاصي إجبارا مخرجا لذلك عن كونه من أعمالهم لما عاقبهم عليه وهو قد قال إنه أخذهم بذنوبهم وأهلكهم بظلمهم وكفرهم ولو كانت مشيئته لذلك متضمنة لرضاه عن فاعله وأمره إياه به خلافا لما قال الرسل لما عاقبهم عليه تصديقا للرسل .فقوله تعالى:{ حتى ذاقوا بأسنا} بيان للبرهان الفعلي الواقع الدال على صدق الرسل في دعواهم وبطلان شبهات المشركين المكذبين لهم ، وأمثالهم من الجبرية الذين عطلوا شرائعهم ، وهم يزعمون كمال الإيمان بها وبهم .
وبعد هذا التذكير بهذا البرهان أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطالب المشركين بدليل علمي على زعمهم فقال:{ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي هل عندكم بما تقولون علم ما تعتمدون عليه وتحتجون به فتخرجوه لنا لنبحث معكم فيه ونعرضه على ما جئناكم به من الآيات العقلية والمحكية عن وقائع الأمم التي قبلكم ، وننصب بينهما الميزان القسط ليظهر الراجح من المرجوح ؟ والاستفهام هنا للتعجيز والتوبيخ ، ولذلك قفى عليه ببيان حقيقة حالهم فقال:{ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} أي لستم على شيء ما من العلم بل ما تتبعون في بقائكم على ما أنتم عليه من عقيدة وقول في الدين وعمل به إلا الظن ، وهو في اللغة ما ليس من مدركات الحس ولا ضروريات العقل ، وقد يكون منه ما يؤخذ من نظريات يطمئن لها القلب ويرجحها العقل ، وهم لم يكونوا على هذا النوع منه وإن كان لا يكفي في إثبات أصلي الدين وهما عقائده وقواعد التشريع التي يجب الجزم بها ، بل كانوا يتبعون أدنى درجاته وأضعفها لا يعدونها ، وهي درجة الخرص أي الحزر والتخمين الذي لا يمكن أن يستقر عنده الحكم ، كخرص ما يأتي من النخيل والكرم من التمر والزبيب ، وكثيرا ما يطلق الخرص على لازمه الذي ينذر أن يفارقه وهو الكذب ، وقد فسر به هنا .