/م148
بعد أن نفى عنهم أدنى ما يقال له علم ، وحصر ما هم عليه من الدين في أدنى مراتب الظن ، مع أن أعلاها لا يغني من الحق من شيء ، أثبت لذاته العلية في مقابلة ذلك الحجة العليا التي لا تعلوها حجة فقال:{ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . الحجة في اللغة الدلالة المبينة للمحجة أي المقصد المستقيم كما قال الراغب فهي من الحج الذي هو القصد .والمعنى قل أيها الرسول لهؤلاء الجاهلين الذين بنوا قواعد دينهم على أساس الخرص الذي هو أضعف الظن ، بعد تعجيزك إياهم عن الإتيان بأدنى دليل أو قول يرتقي إلى أدنى درجة من العلم:إن لم يكن عندكم علم ما في أمر دينكم ، فلله وحده أعلى درجات العلم:بما بعثني به من محجة دينه القويم ، وصراطه المستقيم ، وهو الحجة البالغة ما أراد من إحقاق الحق وإزهاق الباطل ، وهي ما بينه في هذه السورة وغيرها من الآيات البينات على أصول العقائد وقواعد الشرائع وموافقتها لحكم العقول السليمة والفطر الكاملة ، وسنن الله في الاجتماع البشري وتكميلها للنظام العام ، الذي يعرج عليه الإنسان في مراقي الكمال ، ولكن لا يكاد يهتدي بهذه الآيات المنبثة في الأكوان ، المبينة في آية الله الكبرى وهي القرآن ، إلا المستعد للهداية وهو المحب للحق الحريص على طلبه ، الذي يستمع القول فيتبع أحسنه ، دون من أطفأ باتباع الهوى نور فطرته ، أو استخدام عقله لكبريائه وشهوته ، المعرض عن النظر في الآيات استكبارا عنها ، أو حسدا للمبلغ الذي جاء بها ، أو جمودا على تقليد الآباء ، واتباع الرؤساء .
فإنما الحجة علم وبيان ، لا قهر ولا إلزام ، وما على الرسل إلا البلاغ ، وإلا فلو شاء هدايتكم بغير هذه الطريقة التي أقام أمر البشر عليها وهي التعليم والإرشاد بطريق النظر والاستدلال ، وما ثم إلا الخلق والتكوين أو القهر والإلزام لهداكم أجمعين بجعلكم كذلك بالفطرة ، كما خلق الملائكة مفطورين على الحق والخير وطاعة الرب{ لا يعصون الله ما أمركم ويفعلون ما يؤمرون} ( التحريم 6 ) أو بخلق الطاعة فيكم بغير شعور منكم ولا إرادة كجريان دمائكم في أبدانكم وهضم معدكم لطعامكم ، أو مع الشعور بأنها ليست من أفعالكم .وحينئذ لا تكونون من نوع الإنسان الذي قضت الحكمة وسبق العلم بأن يخلق مستعدا لاتباع الحق والباطل ، وعمل الخير والشر .وكونه يرجح بعض ما هو مستعد له على بعض بالاختيار واختياره لأحد النجدين على الآخر بمشيئته لا ينفي مشيئة الله تعالى ولا يعارضها فإنه تعالى هو الذي شاء أن يجعله فاعلا باختياره كما بيناه من قبل في مواضع .
ومثل هذه الآية قوله تعالى من هذه السورة:{ ولو شاء الله ما أشركوا} ( الأنعام:106 ) وقوله منها أيضا:{ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} ( الأنعام:36 ) وأيضا{ من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} ( الأنعام:39 ) وقوله:{ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} ( المائدة:51 ) وقوله:{ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} ( هود:118 ) وقوله:{ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا .أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} ( يونس:99 ) فالآيات في هذا المعنى كلها بيان لسنة الله في خلق الإنسان كما بيناه في تفسير ما تقدم منها وفي مواضع أخرى وهي حجة على المجبرة والقدرية جميعا لا لهما .وقد تماري المعتزلة والأشعرية في تطبيق هذه الآيات على مذاهبهما في إنكار تعلق المشيئة الإلهية بما هو قبيح كالشرك والمعاصي وفي نفي عقيدة الجبر عند المعتزلة وإثبات الأشعرية لهما .وقد جمعنا فيما جرينا عليه آنفا بين رد الشبهتين لأن المفتونين بهما إلى اليوم كثيرون ينتمون إلى مذاهب ما لهم بها من علم .
وقد رأينا أن نلخص أقوال المفسرين من السلف والخلف في الآيات ليعرف منه ضعف المذاهب النظرية المتعارضة لأهل الكلام .قال الزمخشري في تفسير{ كذلك كذب الذين من قبلهم} بعد إن قال إن احتجاجهم كمذهب المجبرة بعينه ما نصه:أي جاءوا بالتكذيب المطلق لأن الله عز وجل ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها والرسل أخبروا بذلك .فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله وكتبه ورسله ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره اه .
وقد رد عليه خصومهم الأشعرية بأن الرسل لم تنف بل أثبتت وقوع كل شيء بمشيئة الله وتقديره وإن كان قبيحا ممن فعله لما يترتب عليه من عقابه عليه لإتيانه إياه باختياره كالكفر والمعصية وأن المشيئة والإرادة منه تعالى ليست بمعنى الرضا ولا تستلزمه ، وقرر جمهورهم أن مراد المشركين بشبهتهم أن الله تعالى راض عن شر كهم وتحريمهم لما حرموا بدليل مشيئته له منهم دون غيره لا أنه أجبرهم عليه .وقد احتج السلف بالآية على منكري القدر قبل حدوث مذهبي المعتزلة والأشعرية فقد روى أكثر مدوني التفسير المأثور وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قيل له إن أناسا يقولون إن الشر ليس بقدر ، فقال ابن عباس بيننا وبين أهل القدر هذه الآية{ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا} إلى قوله{ فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} .
وأخرج أبو الشيخ عن علي بن زيد قال انقطعت حجة القدرية عند هذه الآية أي الأخيرة .وقال الحافظ ابن كثير في قوله تعالى في رد الآية على شبهتهم:أي بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء ، وهي حجة داحضة باطلة لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم ، وأدال عليهم رسله الكرام ، وأذاق المشركين من أليم الانتقام اه وقد جزم ابن جرير أيضا بأن الله تعالى كذب المشركين هنا بزعمهم أن الله رضي منهم عبادة الأوثان ، وتحريم ما حرموا من الحرث والأنعام ، لا بقولهم{ لو شاء الله ما أشركنا} إلخ فإنه قول صحيح أي ولكنه حق أريد به باطل واستدل على ذلك بتشبيهه تعالى تكذبيهم بتكذيب من كان قبلهم من المشركين لرسل الله إليهم وما جاءهم به من التوحيد وإنكار الشرك وما لم يأذن الله به من الشرع في التحليل والتحريم والعبادة وغير ذلك .ولكن عبارته في هذا المقام مضطربة ليست كسائر عباراته في الجلاء .وقد قال في آخرها إن لها عنده عللا أخرى غير ما ذكره يطول ذكرها في الكتاب قال: "وفيما ذكرناه كفاية لمن وفق لفهمه "وما قال هذا إلا عن شعور بضعف العبارة وإنها لا تكاد تفهم بسهولة .
وقد جارى أحمد بن المنير صاحب الكشاف على جعل شبهة المشركين عين شبهة المجبرة ثم جعل الآيتين مبطلتين لمذهبي المعتزلة والمجبرة جميعا فقال في الانتصاف ما نصه:قد تقدم أيضا الكلام على هذه الآية وأوضحها أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله ورسله بذلك فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك كله بمشيئة الله ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة ، ثم بين الله تعالى أنهم لا حجة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له لا لهم بقوله:{ قل فلله الحجة البالغة} ثم أوضح تعالى أن كلا واقع بمشيئته وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون بقوله:{ فلو شاء لهداكم أجمعين} والمقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم وتتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد ، وينصرف الرد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم وإلى إقامتهم الحجة بذلك .وإذا تدبرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن العبد لا اختيار له ولا قدرة البتة بل هو مجبور على أفعاله مقهور عليها وهم الفرقة المعروفة بالمجبرة .
والمصنف يغالط في الحقائق فيسمي أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة ، لأنهم يسلبون تأثير قدرة ، العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية ، مميزة بينها وبين أفعاله القسرية ، فمن هذه الجهة سوى بينهم وبين المجبرة ويجعله لقبا عاما لأهل السنة وجماع الرد على المجبرة الذين ميزناهم على أهل السنة في قوله تعالى:{ سيقول الذين أشركوا} إلى قوله{ قل فلله الحجة البالغة} وتتمة الآية رد صراح على طائفة الاعتزال القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين فلم تقع من أكثرهم ، ووجه الرد أن"لو "إذا دخلت على فعل مثبت نفته فيقتضي ذلك أن الله تعالى لما قال"فلو شاء "لم يكن الواقع أنه شاء هدا يتهم ولو شاءها لوقعت فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم ، فإذا ثبت اشتمال الآية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين المجبرة في أولها والمعتزلة في آخرها فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها في المخالفة والعصيان ، وآخرها يثبت نفوذ مشيئة الله في العبد وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية خيرا أو غيره ، وذلك عين عقيدتهم .فإنهم كما يثبتون للعبد مشيئة وقدرة يسلبون تأثيرهما ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته ، ملزم له بالطاعة على وفق اختياره ويثبتون مشيئة الله أيضا وقدرته في أفعال عباده ، فهم كما رأيت تبع للكتاب العزيز يثبتون ما أثبت وينفون ما نفى ، مؤيدون بالعقل والنقل والله الموفق اه .
ونقول:إنه قد أجاد ، إلا في زعمه أن مذهب أهل السنة أن قدرة العبد لا تأثير لها فهذا مذهب الأشعرية أو أكثرهم ومذهب أهل الأثر وهم أئمة السنة وبعض محققي الأشاعرة كإمام الحرمين أن قدرة العبد مؤثرة في عمله كتأثير سائر الأسباب في المسببات بمشيئة الله الذي ربط بعضها ببعض كما هو ثابت بالحس والوجدان والقرآن وأطال المحقق ابن القيم في إثباته في شفاء العليل وغيره .