ثم يتحرّك الجوّ في مناجاةٍ ذاتيّةٍ ،ينطلقمن خلالهاالمؤمنون في استيحاء أجواء الإيمان ،في مواجهة أضاليل الكفر ،من أجل تسجيل النقاط السلبيّة ضد الكافرين بأسلوب الاستفهام الإنكاري .
ماذا يريد منهم هؤلاء الكافرون والمشركون ؛في ما يدعونهم إليه من عبادة هؤلاء الآلهة من دون الله ؟فهل يملكون أساساً لهذه الدعوة ؟هل تنفع هذه الآلهة أو تضرّ ؟ماذا لديها من عناصر القوّة والقدرة لتدافع عن الذين يؤمنون بها أو يعبدونها ؟إن ذلك هو أبسط الشروط للمعبود ..ولكنهموهذه هي طبيعة الواقع بكل وضوحٍ وبساطةٍلا يملكون شيئاً من ذلك ،لأنهم مجرّد أحجار جامدةٍ لا حسَّ فيها ولا حركة ولا حياة ..فكيف يطلبون منا عبادتها من دون الله الذي هو الخالق لكل شيء ،والقادر على أن ينفعنا ويضرّنا ويحمينا من كل سوء ،وهل يفكر الإنسان العاقل بالتراجع إلى الوراء ،بعد أن انطلق بخطواته إلى الأمام ؟{قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا} ولا يحمل أيّ مقوِّم بسيط من مقومات الألوهية وهي القدرة على النفع والضرر ،{وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} ؟وهل يمكن للإنسان الذي أبصر الهدى بعينين مفتوحتين ،أن يعيش الضلال في أفكاره وخطواته ؟وقد لا يكون من المفروض أن تكون الآية دليلاً على وجود ضلالٍ سابقٍ على الهدى لهؤلاء القائلين ،لأن الفقرة واردة على سبيل الكناية في التعبير عن طبيعة الضلال التي تمثل خطوةً تراجعيةً ،في مقابل الإيمان الذي يمثّل خطوة متقدّمة .
الهدى هدى الله
{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} وهذا مَثَل الإنسان الذي يعيش الحَيْرة الضاربة في الأرض بفعل الإيحاءات التي تلقيها الشياطين في وعيه ،فيفقد التركيز في الرؤية الطبيعية للأشياء ،فيظل يضرب في الأرض يميناً وشمالاً ،فلا يهتدي إلى قرارٍ ،ولا يسكن إلى قاعدة ،ولا يستجيب إلى نداء أصحابه الذين يحاولون إنقاذه من حَيْرته القاتلة عندما يدعونه للسير معهم حيث إشراقة النور واستقامة الطريق .
ويأتي الجواب حاسماً في مواجهة علامات الاستفهام الإنكاري:{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فهو الشاطىء الأمين الذي تقف عنده سفن النجاة ،وهو القاعدة التي تثبت عندها الأقدام ،وهو الأفق الذي تنساب منه إشراقات الضياء ،وما الذي يطلبه الإنسان أكثر من أن يحصل على هداية الله وحده ،فلا خيار له بعد ذلك ،من خلال ما يتحرك به الخطّ الواضح للحقيقة التي فرضت نفسها على كل وجدان الإنسان الذي يقف لينتظر الأمر الذي يوحي به هذا الأفق الواعي للهدى ،{وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فهو الذي بيده الخلق ،وهو الذي بيده الأمر ،وله الحكم ،يأمر العقل أن يهدي ،والوجدان أن يذعن ،والخطى أن تسير ،بما يعنيه ذلك كله من إسلام الفكر والحسّ والخطى لرب العالمين ،في ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه من إقامة الصلاة ،والانطلاق في خط التقوى الشامل لكل جوانب الحياة .