إبراهيم( ع ) مثال للفطرة الصافية في إيمانه
وتنعطف السورة انعطافةً جديدةً في حديثها عن العقيدة ،متجهة إلى الفطرة الصافية ،التي تنساب منها الأفكار بعفويّةٍ وبساطةٍ ،قادرة على مواجهة الانحرافات الفكريّة دون تعقيدٍ فلسفيٍّ تحليليٍّ ،لا لأنّ الفكر الإيماني لا يتحرك في اتجاه العمق في عمليّة الحوار ،بل لأنّه يواجه قضايا الصراع من منطق الواقع في مفردات التصوّر وأدوات الساحة ،فلا يعمل على أساس الحالة الذاتية للمفكر ،بل على أساس الحالة الواقعيّة الإنسانيّة للآخرين ،لأنّه يطمح إلى أن يعيشوا الإيمان في تجربتهم ،لتكون حركة الإيمان لديهم قضيّة محاكاةٍ لا قضيّة معاناة ..ولهذا كانت الأساليب القرآنية في قضايا العقيدة سائرةً في هذا النهج الفطري غير المعقد ،الذي يخاطب الفكر بالوجدان ،ليلتقي بالحقيقة من أقرب طريق ،لأن الوجدان الصافي ،هو الغاية التي ينتهي إليها الفكر في معادلاته ،فهو القاعدة التي تنطلق منها مقاييس الصواب والخطأ ،انطلاقاً من ارتكاز المنطق النظري على بداهة الحقائق التي يقبلها الوجدان .
وفي ضوء ذلك نفهم أن هذا الاتجاه لا يعني تجنّب الفكرة العميقة على أساس أن القرآن لا يخاطب الفئات المثقفة ،بل يخاطب البسطاء الذين يعيشون بساطة الفكرة والأسلوب .ونحن لا نوافق على ذلك ،لأن القرآن جاء ليكون الحجة على الناس كافة ،ليخاطب كل فرد بالحجة التي تقوم عليه ،بل القضيّة كل القضية هي أن القرآن يتّجه إلى الفطرة في كل إنسان ،في القضايا التي توحي بها ،لئلا تغرق الفكرة في متاهات الجدل كأسلوب استعراضي يعقّد الفكرة لا كأسلوبٍ تفرضه طبيعة الأشياء .وبهذا يمكن للمفكر أن يؤمن بالحقيقة من خلال بداهته وفطرته ،ثم يدخل في الحوار مع الآخرين في مجالات الصراع المعقّدة على أساس حاجة الساحة إلى الأساليب المعقدة استجابةً لحاجة الموقف من ذلك كله ..
وتطالعنافي هذا المجالشخصيّة إبراهيمالنبيّ ،التي يقدّمها لنا القرآن في صورة بسيطة صافية وعفوية في أجواء الصفاء الروحي والبساطة الإنسانية والطبيعة العفوية التي تلامس في الإنسان طفولته البريئة في ما تلتقي به من حقيقة الاشياء ،ليفكر من خلال براءة النظرة في عينيه وسلامة الحس في أذنيه ويديه في ما يرى أو يسمع أو يلمس في يديه من أدوات الحسّ الواقعي .فنحن لا نرى فيهمن خلال الصورة القرآنيةشخصية الإنسان الذي يتكلف الكلمات التي يقولها للآخرين ،ولا نلمح لديه روحيّة الشخص المشاكس الذي يبحث عن المشاكل في أفعاله وعلاقاته ،بل نشاهد فيه الشخصية البسيطة الواقعية التي ترتبط بالأشياء من جانب الإحساس ،فتسمي الأشياء بأسمائها بعيداً عن تنميق الألفاظ وزخرفة الأساليب ،بقوّةٍ وصدقٍ وواقعيةٍ وإيمان .
إبراهيم بين الضلال والإيمان
{وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} ففي الصورة الأولى ،نلتقي به في موقفه من أبيه الذي يعبد الأصنام التي يعبدها قومه ،فيواجهه بالرفض الجذري للموقف من الأساس ،لرفضه الفكرة التي يرتكز عليها ،فهذه الأصنام هي أحجار جامدة ،كبقية الأحجار الموجودة في العراء ،ولا ميزة لها إلا أنَّ يد الإنسان قد أعطتها بعض ملامح الصورة ،فحوّلتها إلى تماثيل ،فإذا كان الإنسان هو الذي أعطاها تلك الميزة التي تختلف بها عن سائر الأحجار ،فهي صنع يده ،فكيف تكون آلهةً له ؟ومن الذي أودع فيها سرّ الألوهة ؟وهل الألوهة شيء يُصنع ويُخلق أو هي قوّةً تَصنَع وتَخلُقُ ؟ثم إن الألوهة تعني القدرة والعلم والحياة والغنى المطلق في ما تشتمل عليه في حقيقتها ،فأين هي هذه المواصفات في تلك التماثيل ؟إنها الأوهام التي حوّلت الأشياء غير المعقولة إلى عقائد وتصوّرات ورموز قداسةٍ في مستوى الالهة ،فكيف تتخذ هذه الأصنام آلهة ؟إن فكره لم يلمح أيّة إشراقةٍ للحقيقة في ما تسير عليه ،ولو من بعيد ،بل كل ما هناك هو الظلام والتيه والضياع .هنا يتحوّل التساؤل إلى حكمٍ قاطعٍ في مستوى وعيه للحقيقة المنطلقة من خط الهدى ،التي تحدّد ملامح الضلال في خطوط الآخرين ..
إنه الموقف الصلب الذي لا يهادن ولا يجامل ولا يغلّف الأشياء بغلافٍ سحري ؛بل يدفع الموقف إلى الأمام ،بكل وضوحٍ وصراحة ،بعيداً عن اللياقة التي تفرضها علاقة الابن بأبيه ،لأن قضية العقيدة لا تخضع للجانب العاطفي من العلاقات ،فعلاقة الإنسان بالحقيقة التي تربطه بالله أقوى من أيّة علاقة بأيّ إنسان كان .