{مُّتَرَاكِباً}: متفاعل من الركوب ،أي: تركب بعضه على بعض .
{طَلْعِهَا}: طلع النخل أول ما يبدو من ثمره وقد أطلع النخل .
{قِنْوانٌ}: أعذاق الرُّطب .جمع قنو ،وهو عذق البلح الذي يشبه عنقود العنب .
{مُشْتَبِهاً}: يشبه بعضه بعضاً في النوع والشكل وغيرهما .
{وَيَنْعِهِ}: نضجه واكتماله ،وقيل: جمع يانع .
{وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} وذلك هو المطر الذي يعطي الأرض طراوتها وخصبها وحيويتها وينابيعها التي تتجمع في أعماقها ،لتكوّن الخزانات الجوفيّة ،فتتفجر منها الينابيع والأنهار ،فتعطي الحياة للتراب وتحرك الحيويّة في البذور ،وتمنح الجذور قابليّة النموّ والامتداد ،وتلك هي قصّة العنصر الواحد الذي تتفرّع منه الخصائص المتنوعة ،كما هو الإنسان الذي يختلف في أفراده ولكنه مخلوقٌ من نفسٍ واحدة ،فكذلك الماء الذي لا يختلف في طبيعته ،ولكن الله يخرج منه نبات كل شيء ما اختلفت ألوانه وخصائصه ،مما يوحي بعظمة الإبداع في الخلق .
والمراد بقوله:{فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} أنّ الله أخرج النباتات المتنوّعة بأصنافها وأشكالها وألوانها وأثمارها من ماء واحد لا تنوع في خصائصه ،ومن أرض واحدة لا تمايز بين مواقعها ،ما يبعث على الدهشة والإعجاب والإحساس بعظمة الخالق .
وربما كان المراد بنبات كل شيء ما كان من غذاء الأنعام والطير والوحش ومن أرزاق الناس ومن سائر الحيوانات في البر والبحر ،فإن النباتات المائية الطافية على سطح البحر لتكون غذاءً للأسماك ،تنمو بأشعة الشمس وقطرات المطر ،وإنّ تنوع هذه المخلوقات في حاجاتها الغذائية مع وحدة العنصر الذي تكونت منه هذه الأغذية يدل على عظمة الخلق التي توحي بعظمة الصانع .
{فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} وهو النبات الأخضر ،أو الطراوة والغضّ المتمثل بالأغصان الطريّة التي ينبثق عنها النبات .وربما كان العدول من كلمة الأخضر إلى كلمة الخضر ،للإيحاء بالمظهر الحيّ للحياة في النبات ،لا للشيء الذي تتمثل فيه ،من أجل أن يتّجه النظر والفكر إلى العنصر الموحّد في كلّ النباتات ..
{نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} يركب بعضه فوق بعض ،ويبدو هذا في سنابل الحنطة أو الشعير وفي الرمان ونحو ذلك ،وربما كان التأكيد على هذا النوع ،لما فيه من الإبداع في تناسق الحبّات في التركيب الفني فيما بينها ،ولما فيه من الروعة في تطور الحبّة الواحدة وتحوّلها إلى آلاف الحبّات ،ليفكر الإنسان ،ويتساءل عن السرّ في هذا التكاثر ،فإذا كان ذلك من خلال العناصر الطبيعية الكامنة في قابلية الحبّة أو البذرة للنموّ والتكاثر ،كما يقول علماء النبات ،فيبقى السؤال يفرض نفسه على المسألة من جديد ،فمن الذي أودع هذه العناصر في داخلها ،أو خلقها على أساس وجود العناصر فيها بهذه الدقّة من النظام في حركة الحياة فيها ،ما دامت لا تمتلك أساساً ذاتياً للحتميّة الطبيعيّة بعيداً عن خلق خالقٍ ،أو تدبير مدبّرٍ ؟
ثم ليبحث الإنسان عن الجواب الواعي الذي يؤكد له أنّ الله هو الذي أودع القوانين في حركة الحياة في النبات ،كما أودعها في حركتها في الإنسان وفي الحياة وفي كل شيءٍ ،ما يوحي بملاحقة هذه الظواهر الطبيعية لاكتشاف قوانينها الداخليّة والخارجيّة ،من أجل أن يتعرّف العلاقة الحيّة بين قضية الإيمان ،وقضية الحياة في نموّها وتطورها ،فلا مجال لابتعاد الإيمان عن حركة الحياة في عالم التطوّر والنموّ والإبداع ،كما لا مجال لابتعاد الحياة عن روح الإيمان وحركته في وعي الإنسان وتفكيره .
{وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا} وهو الذي يشبه الأكمام في الزهر{قِنْوَنٌ} سهلة الاجتناء لأنها قريبة من تناول اليد عند الصعود إليها ،{وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} وهاتان الكلمتان بمعنًى واحدٍ ،لأن التشابه في الأشياء قد يؤدي إلى الاشتباه في التمييز بينها من خلال خفاء الخصائص المميّزة بين هذا الفرد أو ذاك .
ولعلّ هذا الاختلاف في التعبير عن المعنى الواحد بكلمتين متعدّدتين يرجع إلى ناحيةٍ فنيّةٍ ،في ما يوحيه التنوّع من اللطف والبراعة{انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} أي: لاحظوا حالة هذا النبات المتنوع قبل أن يثمر ،ولاحظوه بعد أن يثمر لتتعرفوا مراحل نموّه وتطوّره ،وما يوحيه لكم ذلك من أسرار الإيمان بالله ،ولاحظوا{وَيَنْعِهِ} وهو حالة نضج الثمر ،مأخوذ من اليناعة{إِنَّ فِي ذلِكُمْ لاَْيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} في ما توحي به من قدرة الخالق وحكمته ،ما يدفع إلى الإيمان به ،بأوضح برهان ،وأقرب طريقٍ ،لمن يتطلب الإيمان بفكره ،ويبحث عن الحقيقة بروحه ،فهو الذي يعي حركة الخلق في ارتباطها بعظمة الخالق ،عندما يلاحق كل علامات الاستفهام في ما تثيره المظاهر التي حوله منها ،ولا يتجمّد أمام الأشكال البسيطة الساذجة فيها التي قد تشغل النظر من دون أن تثير الفكر ..أمّا الإنسان الذي يعيش اللامبالاة ،أو العناد والتعصب في قصة الإيمان ،فإنه لا يستفيد شيئاً من ذلك ،لأنه لا يجهد نفسه بأيّ فكر مسؤول ،أو أيّة خطوةٍ محسوبةٍ .
وهكذا نجد من خلال هذه الجولة القرآنية مع النظام الكوني ،في النبات والإنسان وفي النجوم وحركة الزمن ،أن بإمكان الباحث عن الحقيقة أن يجد الله في كل شيءٍ من حوله ،لأنها تمثِّل الآيات البارزة الواضحة في الدلالة على وجوده وقدرته وحكمته ،وبذلك تتحرك العقيدة في وعي الإنسان ،مع كل الظواهر الكونية والحياتية التي تحيط به ،أو تتمثل في كيانه ،بما يجعل من قضية الإلحاد والشرك ،قضية جهلٍ ،أو تجاهلٍ ،أو هروبٍ من الجوّ الفكري المسؤول الذي يدفع إلى التفكير ويوحي بالحقّ ،لأنه لا يستند إلى أساسٍ ،أيّ أساسٍ كان .