{وَخَرَقُواْ}: أي: ابتدعوا له كذباً .
جولة في واقع المجتمع الجاهلي المنحرف
وهذه جولةٌ جديدةٌ في واقع المجتمع الجاهلي المنحرف أمام قضية التوحيد والشرك ،هدفها قيادة الإنسان إلى الاستقامة في خط العقيدة ،عبر الإيحاء بالمعاني الرحبة الصافية التي تدعو إليها الفطرة ،ويتفاعل معها الوجدان ،ليعرف في هدى الفكر والتأمّل أن كلّ ما اختلقه المنحرفون من عقائد وأفكار ،لا تثبت أمام النقد ،ولا تستقيم مع التفكير الدقيق ،بل يشعر الإنسان معها بأنه يعيش في أجواء الخرافة والتفاهة الفكرية .
* * *
جعلوا الله شركاء الجن
{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ} من هم هؤلاء الجنّ ؟هناك من يقول: إن المراد بهم الملائكة الذين كان العرب يعتقدون أنهم بنات الله ،وربما كانت التسمية منطلقة من اشتقاق كلمة «الجنّ » من الاجتنان وهو الاختفاء ،أو لأن هناك عقيدةً تقول: إن الله قد صاهر الجنّ ،فكانت الملائكة نتيجة هذه المصاهرة ،ما يجعل من مسألة التسمية عمليّةً تتصل بالمعنى الحقيقي الشائع للكلمة .
وهناك من يقول: إن المراد بهم خلق الجنّ أنفسهم ،وبذلك يكون الشرك شركاً في العبادة في ما كان العرب وغيرهم يحملونه من خضوع لهم ،ولمن يملكون الصلة بهم في عقيدة الناس ،وفي ما كانوا يعتقدونه فيهم من طاقاتٍ خفيّةٍ خارقةٍ ،يملكون من خلالها أن يجلبوا النفع لمن يشاءون ،أو إيقاع الضرر بمن يريدون ،وبذلك استطاع الكثير من هؤلاء المتاجرين بأحلام الناس وآلامهم ،وبعقائدهم الخرافية ،أن يسيطروا على مجريات حياتهم ،ويتصرفوا بحركتها كما يحبون ..
ولكن الله أراد أن يوجّه أصحاب هذه الاتجاهات المنحرفة إلى التفكير بما هم فيه ،في قوله تعالى:{وَخَلَقَهُمْ} في ما توحيه بأن الله إذا كان قد خلق هؤلاء الملائكةعلى التفسير الأولأو الجنعلى التفسير الثاني ،فكيف يمكن أن يكونوا شركاء له في أيّ شيء ؟وكيف يستطيعون أن يتحركوا في أيّة قوّة بعيداً عنه ،لأن عملية الخلق تفرض أن تكون كل الطاقات التي يملكها المخلوق مستمدّةً من الخالق ،ومتحركةً بإرادته ،فلا يملك منها إلا ما أراد له أن يملكه ،ولا يتصرف فيها إلا بالمقدار الذي يأذن لهمن ناحية تكوينيّةٍبالتصرف فيه .وبذلك يكون الخضوع وتقديم أشكال العبادة لهم ،شيئاً لا معنى له ،عندما يدرك الإنسان أنهم ظلالٌ للقدرة المطلقة تماماً كما هي الظلال التي لا تملك أيّ استقلالٍ أو أصالةٍ في ذاتها وعن مصيرها من الأشياء .إن الله أثار هذه الكلمة ليصل إلى صفاء التوحيد من خلال الفكر ..
{وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} فقالوا: إن الملائكة بنات الله ،وقالوا: إن عزير ابن الله ،وإن المسيح ابن الله .وربما قالوا غير ذلك مما لم يصل إلينا علمه ،وصنعوا واختلقوا ذلك كله من أوهامهم ،منطلقين من حالة التخلف التي كانوا يعيشونها ،لأن الناس الذين لا يملكون المعرفة الأصيلة ،ويعيشون الأوهام الغامضة ،يقفون غالباً أمام بعض مظاهر القدرة الإلهية في ما تشتمل عليه من أسرار ،أو في ما يبدو فيها من أشياء غير مألوفة لهم ،فيحاولون أن يصنعوا لها بعض الصلة العضوية بالله ،على أساس أن مثل هذه الصلة هي التي تبرّر هذه الأسرار الكامنة فيها ،كأن الله يمنح بعض مخلوقاته شيئاً معيناً مما لا يمنحه للبعض الآخر ،ليتصوروامن ذلكأن المسألة لا تتصل بالقرابة بقدر ما تتصل باختلاف مظاهر القدرة لدى الله ،في المألوف وفي غير المألوف .
وهذا هو السرّ في الكثير مما عاشته الشعوب المتخلِّفة ،فكانوا يخضعون لبعض الأشياء ،أو لبعض الأشخاص ،فيعبدونهم لأنهم وجدوا فيهم شيئاً لم يألفوه ،أو لأنهم توهموا فيهم ذلك ..ولكن الله يوحي بأن مشكلة هؤلاء كمشكلة كثيرٍ من الكافرين ،أنهم يعتقدون ما يعتقدونه من عقائد وأفكار{بِغَيْرِ عِلْمٍ} ولا حجّةٍ من فكرٍ ،لأن العلم لا يحترم مثل هذه الاتجاهات التي لا تنطلق من قاعدةٍ فكريةٍ في طبيعتها وفي جميع تفاصيلها ..{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}