الوثنية وادعاء النبوة لله
( وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ 100 بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 101 ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 102 لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ103 ) .
بعد أن بين سبحانه وتعالى آياته في خلق الأشياء وتوالده وإثبات قدرته القاهرة وإرادته العلية وأنها تقتضي الإيمان بالله تعالى منشئ هذا الكون وما فيه ومن فيه ، وأنه الحي القيوم القائم عليه يمسكه ويمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا لا يمسكهما أحد من بعده .
مع هذه البينات ظهر أولئك الذين يشركون بالله تعالى وذكر سبحانه وتعالى أنهم يشركون الجن ، فقال تعالى:
( وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .
ومعنى قوله تعالى:( وجعلوا لله شركاء الجن ) أي ان الشركاء هم الجن أي أنهم عبدوا الجن بجوار عبادة الله تعالى ، وقد يسال سائل إن المشركين قد عبدوا الأصنام ولم يعبدوا الجن ، فكيف يقال إن الشركاء لله الجن ، وقد قال في محكم آياته أنهم اتخذوا الأنداد والأنداد التي حبسوها أندادا لله هي الأصنام .
وقد اتجه المفسرون في إجابة هذا السؤال اتجاهين:أولهما أن الشياطين وهم من أتباع إبليس وهو رأس الجن هم الذين سولوا لهم عبادة الأوثان وزينوها لهم وقد جاءت بذلك النصوص القرآنية الكثيرة من ذلك قوله تعالى:( الم اعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين 60 وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم61 ) ( يس ) . ويقول الله تعالى على لسان الملائكة:(. . .سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون 41 ) ( سبأ ) ويقول تعالى:( ان يدعون من دونه الا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا 117 لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا 118 ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا 119 ) ( النساء ) .
وانه ما من شرك إلا والشيطان وراءه والشيطان من الجن إذ هو تابع لإبليس وهو من الجن كما قال تعالى:(. . .إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه . . .50 ) ( الكهف ) هذا هو قول الأكثرين .
الاتجاه الثاني:روى عن ابن عباس والكلبي أنهما قالا:إن الذين كانوا يعبدون الجن هم الثنوية من المجوس الذين كانوا يقولون إن الوجود يحكمه إلاهان إله الخير واسمه يزدان وإله الشر واسمه أهرمن .
ولقد قال ابن عباس:إن موضوع الآية الزنادقة وقد رجح فخر الدين الرازي ذلك الراى ولنترك الكلمة له ، فقد قال:( هذا مذهب المجوس وإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة لأن المجوس يلقبون بالزنادقة لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله سمى بالزند والمنسوب إليه سمى زندي ، ثم عرب فقيل زنديق ، ثم جمع فقيل زنادقة ، واعلم أن المجوس قالوا:كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان وكل ما فيه من الشرور فهو من أهرمن واهرمن هو إبليس بلغة القرآن والقرآن قال إنه من الجن فمن قال بهذا المذهب فهو يعتبر إبليس وذريته من الجن شركاء لله تعالى في معنى الألوهية وبذلك تتحقق شركة الجن .
وفي الحق:إن الآية تشمل بعمومها عباد الأوثان والزنادقة لأن كليهما عبدا الشيطان وإبراهيم عليه السلام عندما نهى أباه عن عبادة الأوثان قال له:( يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا44 ) ( مريم ) .
وعلى ذلك يكون المشركون والمجوس قد أشركوا الجن في عبادة الله تعالى ، سواء أكان ذلك بان سولوا لهم عبادة الأحجار فتكون عبادة الأحجار عبادة للجن ، أو عبدوا الجن مباشرة كالثنوية .
ولقد قال تعالى بعد أن ذكر هذه الشركة الوثنية قال تعالى:( وخلقهم ) أي أن الله تعالى خلقهم فهم مخلوقون حادثون ولا يصلحون أن يكونوا معبودين لأن المعبود بحق هو القديم الذي لا أول له ، والباقي الذي لا آخر له ، ولأنه ليس من العقل في شيء أن يشترك الخالق مع المخلوق .
ثم ذكر سبحانه وتعالى افتراءات المشركين ومن لف لفهم فقال تعالى:( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) وخرقوا معناها اختلقوا القول ، وافتعلوا ، كان الرجل إذا كذب في النادي قالوا خرق ورب الكعبة أي اختلق فالمعنى:اختلقوا أن يكون لله بنون أو بنات ومن الناس من قال الملائكة بنات الله ، وقد تردد ذلك على ألسنة المشركين وعلى السنة اليهود .
ومن الذين خرقوا القول بأن الله تعالى بنين ( الهنود والبوذيون ) وأخذ عنهم النصارى بنو عيسى واليهود قالوا عزيرا ابن الله فادعاء البنوة لله تعالى قد أخذ به اليهود ثم سار وراءهم اليهود والنصارى وكل من افترى على الله تعالى ذلك الافتراء .
ولقد قال تعالى عن ذلك قول ليس له أصل قام عليه ، ولكنه جهالة فقال تعالت كلماته:( بغير علم ) أي انه ادعاء ليس له أساس من أين أوتوه . بل عن أوهام توهموها وجهل مبين بمعاني الألوهية ويدل على فساد فكر وضلال فهم واستهواء نفس ممن سيطر على نفوسهم . والله تعالى منزه عن ذلك .
وختم الله تعالى الآية بما يدل على التنزيه وعلو المقام الإلهي عن ذلك فقال تعالى:( سبحانه ) وهي مصدر يدل على التسبيح وتنزيه الله العلي الكريم عن ذلك ( وتعالى ) أي تسامى سبحانه وتعالى عما يشركون .